الصفحات

الأربعاء، 2 نوفمبر 2016

الطريق إلى الوحدة الوطنية (ج1 )



وعيا منّي بخطورة الفترة التي تمرّ بها بلادنا اجتماعيا، وحساسية المرحلة التاريخية القائمة إقليميا ودوليا، وإدراكا لأهمية الكتابة ودورها في بناء المجتمع، أيّ مجتمع،
ومعالجة العقليات المعيقة للنهضة والتنمية، ونظرا لما بات يلوح في أفق هذه البلاد من نذر التشظّي، وتصاعد موجة الهويات الفرعية والولاءات الضيّقة إثنيةً كانت أو قبليةً أو شرائحيةً، وانطلاقا من أنّ التأسيس لوحدة وطنية حقيقية لا يمكن أن يتأتّى إلاّ في أفق وطني شامل يقوم على أسس العدل والتكامل ومبدأ المواطنة، ويحقّق اللحمة الاجتماعية المطلوبة ويصفّي المظالم، ارتأيت تقديم سلسلة معالجات بعنوان "الطريق إلى الوحدة الوطنية" وهي عبارة عن مقاربات سوسيوثقافيةٍ تستدعي قيم التسامح والمساواة والتعاون بين كافة مكوّنات النسيج الاجتماعي، وهي إلى ذلك أيضا تستبطن الواقع الاجتماعي في موريتانيا محاولة علاج أوجه الاختلالات فيه، سواء تلك التي كان لها ما يسوّغها في الماضي كالقبلية والفئوية وأصبحت اليوم أعباء ثقيلة ومشكلات صادمة ومعيقة لقاطرة التنمية بل ولتماسك الدولة الوطنية ذاتها، أو تلك التي لا يقرّ الدين أصلا بما هو حاصل منها هنا، ويستنكرها العقل المستنير، وتمجّها الفطر السليمة ثمّ إنّها منافية لقوانين وفلسفة الدولة  كالاسترقاق المشين والنظرة الدونية للبعض واحتقاره المزمن والشامل. وبقدر ما سأكون حريصا في هذه المعالجات ـ حدّ المستطاع ـ على عدم نكء جراح الماضي ولا إثارة النعرات أو تصفية الحسابات، سأكون بالمقابل معنيا بوضع النقاط على الحروف خدمة للحاضر والمستقبل وإحقاقا للحقّ وتجفيفا لمنابع التراتبية والنبذ الاجتماعي، ومحاصرة لجيوبهما بكلّ موضوعية والتزام، كلّ ذلك بهدف تكريس مبادئ الإسلام الخالدة، وتحقيق قوانين الدولة الموريتانية وغاياتها السامية كالعدل والمساواة وبناء روح المواطنة وفرض الاحترام المتبادل بين الجميع.
   إنّ المجتمع المتخلّف كمجتمعنا ـ للأسف ـ هو مجتمع تقليدي جامد، يعيد إنتاج الماضي حتّى في وجوهه السلبية ويضع العرف كقاعدة للسلوك، وكمعيار للنظرة إلى الأشخاص وإلى الأمور، بصرف النظر عن ملاءمة ذلك العرف للشرع والقانون أو مخالفته لهما، والإنسان في هذا المجتمع تحكمه التقاليد وتقيّد عنده كلّ حركة أو انطلاقة إلى المستقبل، ومن خصائص الإنسان المتخلف عادة الذوبان في الجماعة والأسرة العشائرية بدل الدولة الوطنية، ولهذا ما زال الاحتماء بالماضي القبلي بشكل خاص أمرا شائعا لدينا، لأنّ فشلنا في تطوير مجتمع الدولة وفكرها وأدواتها يدفع السواد الأعظم منّا إلى الاحتماء بالقبيلة ونظامها وأساطيرها، فيحدث تقزيم للدولة الوطنية مقابل تضخيم للماضي القبلي والإثني وطمس عثراته والمبالغة في حسناته وجعلها صالحة لكلّ زمان ومكان.
   فالغاية من هذه المقاربات إذن هي رسم معالم أنجع السبل لقيام وحدة وطنية حقيقية بعيدا عن العنصرية والتراتبية والغبن، وذلك عبر محاربة العقليات المعيقة للانسجام الوطني، وكذلك رفع الظلم الاجتماعي المسلّط على بعض فئاتنا الاجتماعية وخلق الثقة المتبادلة بين جميع المكوّنات الاجتماعية الوطنية، وزرع روح الكرامة في نفس كلّ مواطن موريتاني وتحسيسه بأهمية تاريخه ومركزية دوره ومحورية وجوده في هذا الصرح الموريتاني العام والمشترك بصرف النظر عن عرقه أو لونه أو لسانه أو جهته، كما نرمي إلى دحض كلّ دعوى غايتها تكريس الأفضلية التلقائية لعنصر معيّن على بقية العناصر ساعين إلى الوقوف الحازم عند إطار الأفضلية الوحيد الذي رسمه الشرع الإسلامي  وهو التقوى والعمل الصالح ومكارم الأخلاق، لعلّنا بهذا نساهم في تأسيس قاعدة سليمة تحدّد الأسس الحقيقية لقيمة الإنسان وتقود إلى مدّ جسور الندّية والتجانس بين كافة مكوّنات الشعب الموريتاني.
ومع علمنا المسبّق بأن التحوّل الاجتماعي بطيء وأن حربا جبهتها واسعة اتساع جغرافية هذا البلد، وعدوّها عنيد بسبب ما تكلّس على مرّ التاريخ داخل الذهنية المجتمعية من مفاهيم وقناعات خاطئة ليس من الهيّن إحراز النصر عليها بسرعة ويسر، بيد أنّ ذلك لا يشفع للسكوت على تلك الاختلالات والمظالم والاستسلام لها، إذ بعد مسيرة نصف قرن من استقلال البلاد ما زالت هذه الأمراض الاجتماعية تنخر جسم مجتمعنا وتشلّ حركته، وتهدّد بانفراط العقد الاجتماعي فيه مما يستلزم التدخّل العاجل والناجع.
ويأتي في طليعة الأمراض الاجتماعية المزمنة، والتي هي بمثابة الجراح المفتوحة في جسد مجتمعنا ووطننا: 
1 ـ داء القبلية وخطورته على الوطن:
تعرّف القبلية بأنّها مصدر صناعي من القبيلة وهي نظام اجتماعي بدائي يقوم على الاستقرار المكاني وعاطفة الجماعة، وقد وجد منذ العصور القديمة لتنظيم حياة جماعة معينة والتعارف في ما بينها هي بالذات، والشخص القبلي ـ بهذا المعنى ـ هو صاحب الشعور القويّ بالهوية القبلية دون سواها، إذ لا يكون ولاؤه الشخصي إلاّ لها، أمّا الوطنية فهي مصدر صناعي من الوطن بمعنى الدولة، والدولة جهاز سياسي وقانوني متطوّر ينظّم المجتمع ويضع الخطط العامة لنهضة الوطن بكلّ قبائله وفئاته وإثنياته، ويشرف على تنفيذها لما فيه صالح جميع المواطنين. والمواطن بالمعنى الحقيقي هو الشخص المخلص لوطنه دون غيره من الانتماءات الضيّقة، هو الإنسان الذي يؤمن بقيم الدولة الوطنية ويتبنّاها، ويرفض كلّ انتماء يتناقض معها أو يقزّمها. 
   وتجدر الإشارة إلى أنّ الانتماء القبلي بحدّ ذاته ـ وإن بات اليوم متجاوزا في ظل تزايد الوعي بالقيم الإنسانية المشتركة وقيام التكتّلات الإقليمية الكبرى ـ ليس ممّا يذمّ لو تُرِك في حدوده الطبيعية، فمن محاسنه التعارف وكونه يمثّل سندا للفرد في الملمّات، ويجعل الإنسان يتوّقى الحذر خشية أن يجلب المذمّة لذويه وقبيلته، بيد أنّ الخطأ في مجتمعنا هو أنّ الانتماء القبلي مناط للتفاخر والولاء والتآزر والتناصر على حساب بقية المواطنين، بل على حساب الدولة الوطنية نفسها، وقد اختلط عند الكثيرين الولاء القبلي الضيّق بالولاء الديني والوطني الشامل، وأصبح الولاء للقبيلة يتغلّب بشكل حاد وحاسم على بقية الولاءات الأخري في كثير من المناسبات الخاصة والعامة ممّا يعرّض الدولة الوطنية لتحدّيات جمّة.
   لقد ظلت علاقة القبيلة بحقوق الإنسان عندنا علاقة متوتّرة دائما، ذلك أنّ القبيلة في هذا الحيّز الصحراوي المتخلّف هي إطار بدائي هرمي مناهض لقيم العدل، فهي ترفض المساواة حتّى بين أفرادها ولا تحترم حقوق الإنسان، وداخلها نما الاسترقاق والتراتبية الطبقية واضطهدت المرأة وهُمِّش الشباب، وبديهي أن هذه القضايا من أهم التحدّيات التي قامت الدولة الحديثة لأجل مواجهتها.
   ومن المشاكل الكثيرة التي تعترض سبيل الدولة الوطنية بسبب هيمنة الولاء القبلي أنّ القبلية في أغلب حالاتها ممارسة عصبية عنصرية جاهلية، ولا يخفى ما للعنصرية والعصبية والجاهلية من خطر على الدولة ومستقبلها، ولذلك كان التحذير منهما واضحا في الكتاب والسنّة فقد قال تعالى: "يا أيّها الناس إنّا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم إنّ الله عليم خبير" وقال صلّى الله عليه وسلّم: "كلّكم لآدم وآدم من تراب" وقال أيضا "دعوها فإنّها منتنة" ومن مضار القبلية أيضا في حياتنا المعيشة تدخّلها الدائم في الشأن العام وإرباك الدولة فعلى سبيل المثال تنتهج الضغط لإفلات أفرادها المجرمين من العقاب الرادع والمناسب لجرمهم، وتحتضن أكلة المال العام وتعتبرهم أبطالا وتهنّئتهم على خيانتهم لأماناتهم! وكذلك تضغط للدفع ببعض جهلائها وعجزتها لتولّي مسؤوليات حسّاسة في الدولة ممّا يؤدّي إلى شلل القطاعات والمرافق التي تُسند إليهم، ومن سلبياتها الكثيرة أيضا حرمان بعض المواطنين البسطاء من حقوقهم بمنافستهم عليها وانتزاعها منهم قهرا، ومن ذلك ما يحصل في بعض المسابقات الوطنية، حيث يتقدّم أصحاب النفوذ الاجتماعي فيحرزون الرتب العليا ويتأخّر سواهم ممّا يجعلهم في ورطة حقيقية بسبب نفوذ القبيلة.
 إنّ فلسفة الدولة الحديثة قائمة في جانب مهمّ من جوانبها على  القضاء على الأمراض التي تجسّدها القبيلة ونظامها وعاداتها، إلّا أنّ المفارقة العجيبة هي أنّ الدولة عندنا ما زالت إلى اليوم تتحالف مع القبائل وتتبادل معها الرسائل والمصالح في تحدّ صارخ للقانون، وترخّص لأنشطتها وتغضّ الطرف عن اجتماعات لمّ شملها، وقد يصل الحدّ في بعض الحالات إلى شراء ذمم شيوخها، وخصوصا في المناسبات الانتخابية، والخاسر في كلّ ذلك هو الوطن بمفهومه الشامل والمواطن الموريتاني البسيط الذي لا تدعمه خلفية اجتماعية نافذة.
د. محمد ولد محفوظ
                                                                                         ـ يتواصل ـ


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق