الصفحات

الأربعاء، 23 نوفمبر 2016

كلمةٌ سواء في موضوع المقاومة الوطنية

شهدت الساحة الوطنية خلال الأشهر الماضية سجالا ونقاشا حادا في موضوع "المقاومة الوطنية" والموقف من المستعمر وقد حمي وطيس ذلك النقاش حتى أعاد إلى الأذهان بدايات الحقبة الاستعمارية ومواقف الفقهاء منها وما جرى بينهم من مناظرات ومباحثات علمية ثرية وشيقة.

ورغم أهمية التأريخ لتلك الحقبة وتقويم مواقف الفقهاء والأعيان منها واستنطاق مواطن الخلل فيها، إلا أن هذا النقاش قد أخذ في بعض مجرياته طريقا مغايرا فخرج إلى السباب والتجريح الشخصي لعدد من أعلام البلد ورموزه الذين جاوزوا القنطرة واعترف لهم أهل عصرهم بالعلم والورع، فمن العار أن نلعنهم اليوم ونتبرأ منهم على خلفية مواقف أملتها ظروف ومؤثرات موضوعية لا يمكن لمن لم يعايشها ولم يقرأ عنها أن يتصورها ويعرفها حق المعرفة.

إن واجبنا تجاه موضوع المقاومة يتلخص في عدة نقاط:
1-    إعادة الاعتبار للمقاومة الوطنية وتكريم أبطالها ورموزها، خصوصا أولئك الذين كانوا محل إجماع وتقدير، وكانت عملياتهم موجهة ضد المستعمر الكافر مثل الشيخ ماء العينين وتلامذته والشريف سيدي بن مولاي الزين والأمير بكار بن اسويد أحمد وابن عمه المختار ولد أحمد وسيدي أحمد بن أحمد عيدة وولد الديد وغيرهم من العلماء والأمراء، إذ يجب التمييز بين المقاومة الإسلامية الوطنية وبين تلك العمليات الأخرى التي تضرر منها المواطنون الأبرياء والتي هي من قبيل التلصص و الحروب الأهلية، فيجب ألا يلتبس الأمر.

2-    السعي إلى انتهاج خطاب معتدل يقرأ تاريخ المقاومة قراءة نزيهة وينزلها في سياقها الوطني والديني، بعيدا عن الخطابات الجهوية والعائلية وعن أسلوب التجريح والتخوين الذي ساد أخيرا. ولا يفوتني في هذا السياق أن أنوه بالأسلوب الذي سلكه الشيخ الفاضل الطالب اخيار بن مامين حفظه الله في كتابه القيم: "الشيخ ماء العينين علماء وأمراء في مواجهة الاستعمار" حيث حرص على تناول موضوع المقاومة بأسلوب علمي وتوثيق منهجي دقيق دون تجريح ولا تخوين للمخالفين.


3-    تكريم أعلام المقاومة الثقافية ورموز الإصلاح والتجديد، وإبراز مزاياهم ومشاريعهم ومساعيهم الإصلاحية ودورهم في توحيد البلاد والمحافظة على لحمتها فيجب أن ينال هؤلاء أيضا حظهم من التكريم والتقدير لما قدموه للأمة والمجتمع مما لا ينكره إلا جاهل أو مكابر.

فليس من المنطقي أن نهمل تاريخ المقاومة مع ما له من أهمية تربية الأجيال وغرس قيم البطولة والتضحية في نفوسهم، وليس من الوارد كذلك أن نجعل من استذكار تاريخ المقاومة فرصة للنيل من بعض رموز الوطن وإثارة وأعلامه وإثارة النعرات وما إلى ذلك.

وكما يقول الدكتور مسفر القحطاني في بحث له بعنوان "فلسفة المقاومة" فإن مقاومة المحتل المغتصب في كل الشرائع والملل عملاً بطولياً مشرّفاً مهما كانت طبيعة الغاصب المعتدي من حيث الفكر والجنس، ومهما كان هذا المقاوم من حيث الهدف والتوجّه. وكل الشعوب البشرية تفاخر بشهدائها، وتقدّس دماءهم الزكية.

والفلسفة الإسلامية للمقاومة ورد العدوان يُصطلح عليها بـ"الجهاد" كمفهوم له دلالاته المستوحاة من معناه اللغوي وهو بذل الجهد في الدفاع عن الدين والوطن... والجهاد لم يُشرع إلا كوسيلة لحفظ الدين ونشره والدفاع عن دعاته ومبلغيه، وحماية لبيضة المسلمين، ومواجهة كل المعتدين والمحتلين لأراضي الأمة ومكتسباتها؛ ... وبالتالي فالقائد المسلم يجب عليه أن يحافظ على هذه تحقيق هذه المقاصد حتى لا يتحول الجهاد إلى فتنة ومحنة".

إن الواجب على الدارسين والباحثين اليوم أن ينظروا إلى تلك الحقبة بتجرد وإنصاف بعيدا عن التخوين والتجريح وأن يريحوا ألسنتهم وأقلامهم مما أراح الله منه مهجهم، ويشتغلوا بما هو أجدى لهم من أخذ العبرة والاستفادة من تلك التجربة، والتركيز على النقاط الايجابية فيها...

ولعل سبب ما حدث في الفترة الأخيرة دخولُ بعض من لم يستكمل الأهلية على خط النقاش والتقويم وتجرؤهم على الكلام في مواضيع معقدة، تحتاج علما واطلاعا وموازنة ومعرفة بأدب الخلاف وكما قال الإمام الغزالي: "لو سكت من لا يعلم لارتفع الخلاف".

 والحقيقة أن مسألة التعامل مع المستعمر في بلادنا ليست إلا مسألة اجتهادية لا تخرج عن دائرة الخلاف المسموح به في الفقه الإسلامي، وقد اختلفت مواقف الفقهاء منها تبعا لاختلافهم في تقدير الموقف وموازنة المصالح المستجلبة والمفاسد المستدفعة، وتحقيق مناط النازلة، فهو اختلاف في تنزيل الحكم على الواقع في أصل الفقهاء مقرٌ بمشروعيته الجهاد وأفضليته لكن الخلاف في تحقق شروطه.


لقد انطلق العلماء الذين ارتأوا خيار معاهدة المستعمر – وعلى رأسهم الشيخ باب بن الشيخ سيديّ والشيخ سعد أبيه ومحمد الأمين بن أحمد زيدان - من عدة منطلقات أبرزها: تخلف شروط الجهاد وانعدام القوة المكافئة للعدو بسبب تخاذل السكان، واستحكام السيبة والفوضى التي مزقت أوصال البلاد ولعبت بأمنها عدة قرون؛ فرأوا التعامل مع المستعمر وفرض شروطهم لصالح الأمة والمجتمع عليه؛ خاصة وأنهم شاهدوا تسامحه مع المسلمين في مالي والسنغال وغيرها وما ترتب على وجوده من مصالح لا تنكر في الدين والدنيا، حيث عم الأمن والسلام ربوع تلك البلاد، وانتهز المسلمون تلك الفرصة للدعوة إلى الإسلام في المناطق النائية فأسلم كثير من السكان وعمرت المساجد والمدارس، وإن الله لينصر دينه بالدولة الفاجرة كما ينصره بالرجل الفاجر، والله غالب على أمره.

لقد اعتبر هؤلاء أن تخليص البلاد من نيران السيبة والحروب والقلاقل التي استحكمت  إباّن دخول الاستعمار نتيجة الاختلال الواضح في توازنات القوة أمر ضروري وواجب شرعي، يهون إلى جنبه دفع الضرائب للمستعمر مقابل الأمن والهدوء، من باب ارتكاب أخفِّ الضررين خاصة وأن المغارم كانت مفروضة من قبلُ مع السيبة والحرب.

وعلى كلٍ فهو موقف مرحلي أملته ظروف استثنائية نابعة من خصوصيات الزمان والمكان وله مسوغاته وحججه. وبالرجوع إلى التراث الإسلامي نجد أن هناك حالات مشابهة وقف منها الفقهاء نفس الموقف، فقد طرحت مسألة الهجرة بالنسبة لأهل الأندلس قديما عندما تغلب عليها في القرن الأسبان، واختلف الفقهاء في وجب الهجرة عليهم، فأفتى الونشريسي صاحب المعيار بوجوبها عليهم لأنهم لا يأمنون على دينهم ولجريان أحكام الكفار عليهم وألف في ذلك رسالة بعنوان"أسنى المتاجر في حكم من غلب على وطنه النصارى ولم يهاجر"، بينما أفتى آخرون بعدم وجوبها إذا كانوا يأمنون على دينهم، وقد رد الشيخان سيديَّ باب وآب بن اخطور على أمن أسقط فتوى الونشريسي على أهل موريتانيا يومئذ، وبينا أن حال  أهل الأندلس مخالف لحال الفرنسيين الذين يحترمون حرية التدين.

وقد وقفت على فتوى طريفة لأحد فقهاء الشافعية رأى فيها تحريم الهجرة على من يأمن على دينه ويتمكن من أداء الشعائر، لأنه إذا هاجر والحال هذه فقد فرط في جزء من بلاد الإسلام، وهذا منطبق تماما على وضعية بلادنا في تلك الحقبة، فقد سئل شهاب الدين أحمد بن حسين الرملي (تـ844هـ) عن أهل حصن "أرغون" من بلاد الأندلس فإنهم تحت طاعة ملك النصارى ولكنهم يصلون ويصومون ويقيمون الشعائر جهرا، إلا أنهم يدفعون خَراجا للنصارى فهل تجب عليهم الهجرة فأجاب بما نصه: "لَا تَجِبُ الْهِجْرَةُ عَلَى هَؤُلَاءِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ وَطَنِهِمْ لِقُدْرَتِهِمْ عَلَى إظْهَارِ دِينِهِمْ بِهِ وَلِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ عُثْمَانَ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ إلَى مَكَّةَ لِقُدْرَتِهِ عَلَى إظْهَارِ دِينِهِ بِهَا بَلْ لَا تَجُوزُ لَهُمْ الْهِجْرَةُ مِنْهُ ; لِأَنَّهُ يُرْجَى بِإِقَامَتِهِمْ بِهِ إسْلَامُ غَيْرِهِمْ وَلِأَنَّهُ دَارُ إسْلَامٍ فَلَوْ هَاجَرُوا مِنْهُ صَارَ دَارَ حَرْبٍ وَفِيمَا ذَكَرَ فِي السُّؤَالِ مِنْ إظْهَارِهِمْ أَحْكَامَ الشَّرِيعَةِ الْمُطَهَّرَةِ وَعَدَمِ تَعَرُّضِ الْكُفَّارِ لَهُمْ بِسَبَبِهَا عَلَى تَطَاوُلِ السِّنِينَ الْكَثِيرَةِ مَا يُفِيدُ الظَّنَّ الْغَالِبَ بِأَنَّهُمْ آمِنُونَ مِنْهُمْ مِنْ إكْرَاهِهِمْ عَلَى الِارْتِدَادِ عَنْ الْإِسْلَامِ أَوْ عَلَى إجْرَاءِ أَحْكَامِ الْكُفْرِ عَلَيْهِمْ { وَاَللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنْ الْمُصْلِحِ " (فتاوى الرملي (182).

فهذه الفتوى الطريفة انتقلت من جواز ترك الهجرة إلى تحريمها تبعا للمصلحة الدينية والدنيوية، وأعتقد أنه لو اطلع عليها فقهاء بلادنا الذين أفتوا بسقوط الهجرة لفرحوا بها كثيرا. خاصة وأن مذهب مالك أكثر المذاهب رعيا للمصالح المرسلة وعملا بالمناسبة.

ولا مراء في أن الاشتغال بالجهاد عند تخلف شروطه يعتبر مرفوضا في ميزان الشريعة باتفاق الفقهاء قال القرافي في الذخيرة: "قال إمام الحرمين من الشافعية إذا تيقن المسلمون أنهم لا يؤثرون شيئا البتة وأنهم يقتلون من غير نكاية العدو ولا أثر أصلا وجبت الهزيمة من غير خلاف بين العلماء وهو متجه" (الذخيرة3\411).

فهذا طرف من توجيه أدلة الفقهاء الذين مالوا إلى المعاهدة عرجنا عليه نصيحة للعلماء وردا على من طعن في موقفهم أو نسبهم إلى العمالة والخيانة.

ومعروف أن أقطاب المعاهدة قد سخروا نفوذهم وعلاقتهم بالمستعمر لخدمة المشروع الأمني الذي دعوا إليه، وأنهم لم يألوا جهدا في الدعوة والإصلاح والسعي في حقن الدماء والتقليل من مخاطر الاستعمار إلى غير ذلك مما يعود على المجتمع بالنفع والخير، نسأل الله أن يجعله في ميزان حسناهم.

أما الفريق الذي رجح خيار المقاومة والمواجهة - وعلى رأسه الشيخ ماء العينين وأبناء ما يابى وسيدي المختار بن أحمد بن الهادي وسيدي محمد بن حبت وغيرهم - فقد تمسكوا بالأصل المتفق عليه بين المسلمين في وجوب الجهاد ومقارعة المعتدي، وبالتالي فموقفهم موقف مبدئي لا يحتاج إلى تسويغ إذ الأصل وجوب الجهاد والذب عن بيضة المسلمين، والأصل تفضيل المجاهد على القاعد كما قال تعلى: (لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا).
وقد راهن هذا الفريق الذي رجح خيار المقاومة والجهاد على إنهاء حالة السيبة والفوضى التي عانت منها البلاد، وعلى تعويض ما تخلف من شروط الجهاد من خلال إيجاد بدائل مقبولة في نظرهم. وقد عولوا على دعم المملكة المغربية الشقيقة، وطلبوا العون منها كما استعان أهل المغرب والأندلس من قبل بالمرابطين، وبالطبع فلا يعتبر ذلك قادحا في وطنيتهم بل هو شرفٌ لهم أن سعوا إلى توحيد كلمة المسلمين وامتثلوا أمر الله في التعاون على البر والتقوى، فيجب ألا نحاكم تلك الفترة بأدبيات وأفكار العصر الحديث...
ومعروف أن الشيخ ماء العينين رحمه الله قد قام بجهود جبارة في هذا المجال فعمل على إيفاد شيوخ القبائل إلى ملك المغرب بغية طلب الإعانة والمدد منه سنة 1334هـ حيث حصلوا على السلاح والتموين المطلوب من المغرب، كما سخر الشيخ ماء العينين كلَ ما لديه من أموال وأنصار للجهاد، وسعى تلامذته وأبناؤه إلى تأسيس "بيت مال للجهاد" إلى غير ذلك من الجهود والتضحيات العظيمة عند الله، والتي لا يمكن التهوين من شأها بحجة أن هناك من لم يوافق فيها فليس هناك رأي ملزم للجميع.
والناظر بتجرد من خارج السياق يدرك أنه كان هناك تعارض بين الموانع والمقتضيات وتجاذب في الأدلة يجعل كلا من الفريقين معذورا في موقفه، ولهذا نجد أن كثيرا من العلماء والأمراء قد تغير موقفهم غير ما مرة كما حدث مع الزعيمين العالمين الشيخ محمد المختار بن الحامد الكنتي والعلامة العبقري بن الأمين الجكني الذيْن عاهدا المستعمر أولا ثم ما لبثا أن انضما إلى صفوف المقاومة وشاركا في وقعة النيملان ثم غير الأخير منهما موقفه وجدد العهد من المستعمر و كما حدث مع العلامة عبد القادر بن محمد بن محمد سالم و الشيخ سيدي محمد بن حبت وغيرهم كثير.
وقد أشار السيد أحمد بن الأمين في "الوسيط" إلى طرف من ذلك بأسلوب تحليلي ورؤية إستراتيجية ثاقبة حيث يقول في ترجمة الشيخ ماء العينين: "ولما أراد الفرنسيون احتلال شنقيط وصحرائه، أرسل إليهم الشيخ ماء العينين، يحضهم على الدفاع، ويمنيهم بمساعدة السلطان لهم، وكانوا يعتقدون أن السلطان أقوى من الفرنسيين... ثم إن الشيخ بعث إليهم أحد أشراف فاس، وأخبرهم بأنه هو خليفة السلطان عليهم... فوقعت بينه أيام مع الفرنسيين، انتصر في بعضها، وخذل في بعض فلولا قلة الفرنسويين، وكثرة الصحارى والجبال، لقهروهم في أوَّل وهلة، ولولا رداءة سلاح أهل الصحراء، وعدم انتظامهم في أنفسهم، لدافعوهم سنين كثيرة، على أنهم ما دخلوا ادرار، منذ دخلوا تيججگ، الا بعد سنين، وهما كالشيء الواحد، ولولا ما بعدهم الشيخ ماء العينين به من إنجاد السلطان، لسلموا لهم أيضا، فطال الروغان" (الوسيط 365).

ومن عرف هذا حق المعرفة عذر الجميع في مواقفهم، وعلم أنها كانت مبينة على أسس دينية ومقاربات موضوعية، وأنهم جميعا قد أبلوا بلاء حسنا في خدمة الأمة والدين؛ فهم ما بين مجاهدٍ في سبيل الله باع نفسه وماله بالجنة، ومنافح عن المسلمين بجاهه ورئاسته يسعى إلى انتزاع كل ما يمكن انتزاعه بالمعاهدة والمقاومة السلمية، فهذا حال معظم أولئك العلماء والأعلام.

 وبالرجوع إلى إرشيف تلك الحقبة نجد أن رموزها كانوا يتعاملون باحترام وتقدير وإنصاف نادر وإن بدا منهم في بعض الحيان خلاف ذلك خصوصا في سياق النقاش والمناظرة فذلك أمر معهود حتى في أوقات السلم. وقد اطلعت من قبل في "مكتبة أهل الطالب محمد بن خليفة" بتججگة على رسالة وجهها الشيخ ماء العينين إلى جماعة "العلويين" في تججگة جوابا على رسالة لهم يعتذرون فيها عن أنفسهم فيما أقدموا عليه من معاهدة المستعمر حيث دهمهم على حين غرةٍ وعجزٍ عن مقاومته، فعبر الشيخ عن تفهمه لموقفهم وأن عذرهم مقبول وهذا نص الرسالة: "إلى جماعة العلويين بتججگة، موجبُه، أوجب الله لنا ولكم السعادة والحسنى والزيادة، إعلامُكم أننا وافانا كتابكم الذي من مضمونه اعتذارُكم، ومقبولٌ ذلك الاعتذار. ولا يشك أحد أن لكم العذر الواضح، ولم يستو الناصح وغير الناصح. وليكن في كريم علمكم أننا وجهنا خليفة السلطان مولاي عبد العزيز، أيده الله ونصره وبجميع أعدائه ظفره، لإعلاء كلمة الله وجمع شمل المسلمين وإصلاح ذات البين وردهم عن بلاد المسلمين حتى يقفوا عن حدود بلادهم، والله يصلح لكم به ذلك ولغيركم من إخوانكم المسلمين ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا، عبيد ربه ماء ء العينين بن شيخه الشيخ ماء العينين 22 صفر 1324هـ".

وتتقاطع رسالة الشيخ ماء العينين هذه مع رسالة الشيخ سيديّ باب إلى سيدي محمد بن حبت الغلاوي التي أوردها أخونا الأستاذ الفاضل أحمد بن هارون في مقاله: "موقف الشيخ سيدي باب موقفه من نازلة الاستعمار"، فقد خاطبه فيها قائلا:
"وإنه لا يخفى عليَّ أنك لم ترد بهذا الأمر أكْلَ مال ولا اكتسابَ منزلة، ولكن أرى أنك لم تُمْعِن النظر في أحوال الزمان والمكان؛ ومثلُك إن أصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجر".

فهكذا يجب أن تكون المواقف من المخالفين محكومة بالأدب وحسن الخطاب بعيدا عن التخوين والاتهام بالعمالة ومحاكمة النيات...

ويعجبني في هذا السياق ما تحلى به العلامة المحدث الشيخ محمد حبيب الله بن مايابى من إنصاف وفي موقفه من نازلة الاستعمار والهجرة، فقد كان وهو وأخواه: محمد العاقب ومحمد الخضر وشيخه سيدي المختار بن أحمد الهادي من أول من نادى بوجوب الجهاد، والهجرة، لكنه ظل مع ذلك يكن كل الاحترام والتقدير لأعلام البلد ورموزه الذين عاهدوا المستعمر، ويلتمس لهم أحسن المخارج وظل على موقفه ذلك حتى بعد هجرته إلى المشرق؛ فقد راسل الشيخ سيديّ باب ومدحه وعبر له في رسالته إليه عن حب له وتشوقه إلى لقائه وأنه كثيرا ما يدعو له في جوف الكعبة. ومدحه بقصيدة معروفة مثنيا على ما تحلى به موقفه من نازلة الاستعمار من حكمة وتثبتٍ، واعتبر أنه بموقفه ذلك قد وفِّق في تامين البلاد والضرب على أيدي السفهاء يقول ابن مايابى في هذا السياق:

وَذَا التَّلَصُّصِ جازَيْتَ الجزاءَ عَلَى *** طِبْقٍ فَحَكَّمْتَ فيه السيفَ والقَلَما
وليس مختار حبر لازما عملا *** عملا لذي اجتهاد رأى بالشرع ما فهما                                                                                                

وظل الشيخ حبيب الله وفيا للشيخ سيديّ حتى بعد وفاته فأرسل إلى ابنه الشيخ إبراهيم يطلب منه أن يكتب له ترجمة تستوفي مناقبه وأخباره، فكتب له في ذلك رسالة بعنوان: " رنات المثاني في ترجمة الشيخ سيديّ الثاني" وقد أشرف الشيخ محمد حبيب الله على طباعتها وتصحيحها في مصر، فكانت أول ما نشر عن حياة ذلك الشيخ الأجل ، وتعرف عليه أهل المشرق من خلالها .

وقد ربطته علاقة مماثلة مع شيخه الشيخ ماء العينين ومع أبنائه وأكابر تلامذته كالشيخ مربيه ربه وماء العينين بن العتيق وغيرهم فتبادل معهم المدائح والمراسلات وأكثر من الثناء والإشادة بشيخه الشيخ ماء العينين كلما جرى ذكره في مؤلفاته.

ومع هذا فقد بقي الشيخ محمد حبيب الله على رأيه في وجوب الهجرة والجهاد، مع الاعتراف بالرأي الآخر إلى درجة تقرب من التماهي، فيسحبه من لم يتثبت من أنصار الرأي الآخر، وما ذلك إلا لسعة علمه وإنصافه والتماسه للمخالفين أحسن المخارج. ولهذا فقد تكلم في كتابه " فتح المنعم على زاد المسلم " على موضوع الهجرة فرجح وجوبها على كل من تجري عليه أحكام الكفر وإن كان آمنا على دينه، واحتج لذلك بعدة أدلة؛ ثم أخذ يلتمس أحسن المخارج لمن لم ير وجوب الهجرة فقال: "أحسن ما رأيت من الأدلة لعذر المستضعفين من أهل بلاد الإسلام اليوم عن الهجرة كقطر شنقيط حديث حديث الأعرابي الذي سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الهجرة فقال: "ويحك إن الهجرة شأنها شديد فهل لك من إبل تؤدي صدقتها؟ قال: نعم قال: فاعمل من وراء البحار فإن الله لن يترك من عملك شيئا

وحديث رواه الإمام أحمد عن عمرو بن العاص: " إِذَا أَقَمْتَ الصَّلَاةَ وَآتَيْتَ الزَّكَاةَ فَأَنْتَ مُهَاجِرٌ وَإِنْ مُتَّ بِالْحَضْرَمَةِ" وحديث البخاري: " من آمن بالله ورسوله وأقام الصلاة وصام رمضان كان حقا على الله أن يدخله الجنة هاجر في سبيل الله أو جلس حيث ولدته أمه " ثم ذكر أن الذي يظهر له أن سكان موريتانيا يومئذ غير آثمين بترك الهجرة لسرعة تغلب العدو عليهم وافتراق كلمتهم وعجزهم عن الجهاد فحكمهم حكم المسلمين في صدر الإسلام حين كان الجهاد غير واجب عليهم. ثم ختم الشيخ محمد حبيب الله كلامه قائلا: " فنسأل الله أن يمن علينا وعلى إخواننا الذين لم يهاجروا بالغفران ويختم لنا بأكمل الإيمان بجوار سيد ولد عدنان " (زاد المسلم 5\134).

ونلاحظ من خلال ما تقدم أنه قد مال إلى قبول الرأي الآخر وسلك سبيلا وسطا يُنصف تيار المعاهدة ويثمن موقفه؛ ولا شك أن تجربته مع الهجرة واطلاعه على واقع الأقطار الإسلامية شرقا وغربا وما تعانيه من ضعف وتفكك قد شارك في صياغة هذا الرأي المعتدل وليس من رأى كمن سمع !!

وأختم هذا المقال بعبارة للعلامة سيدي عبد الله بن محمد بن القاضي العلوي قالها تعليقا على خلاف شيخه ابن الأعمش مع الإمام ناصر الدين وجماعته في شأن " شرببة" : " نسأل الله أن يرحم الجميع وأن يبلغهم نياتهم فيما قصدوا من خير "!
محمد يحي ولد احريمو 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق