نحو مقاربة جديدة في كتابة تاريخ المقاومة المسلحة في موريتانيا 1800ـ 1934 الدكتور محمد المختار ولد سيد محمد أستاذ التاريخ المعاصر بجامعة نواكشوط مدير الوثائق الوطنية تقديم
وحسبها في هذا السياق أن تبرز جملة من الملاحظات المتعلقة بالموضوع، وتثير بعض الأسئلة التي يطرحها، مبحث المقاومة في مجتمع يصنف ضمن البيئات الانقسامية، يتنازع المجال، ويتحرك عبره، في مشيخات وإمارات وقبائل تعيش على الأملاك المنقولة، وتختلف في كثير من القضايا ويجمعها المذهب والعقيدة ونمط عيش الصحراء، والولع بمباحث الأنساب والمناقب والسير كسلاح معنوي ضروري في صراع العصبيات.ولما كانت المقاومة في بعض تعريفاتها هي فعل نهوض اجتماعي وثقافي وسياسي للدفاع عن موقف أو فكرة أوكيان، أو هي شكل من الاستجابة الطبيعية لتحد ما، فهي في جميع الحالات تمثل جزء حيا من ذاكرة الشعوب، وركنا من أركان تاريخ المجتمعات، لهذا غدا من واجبنا اليوم، أن نسائل مالدينا من مصادر سبيلا إلى الشروع في وضع تصور أولي لكتابة تاريخ المقاومة الموريتانية في سياق رؤية علمية لا تسعى لمتجيد الذات واستجداء البطولة، ولكنها في المقابل لا تتجاهل الواقع ولا تتنكر للوقائع، ولا تحمل المرحلة المدروسة أكثر مما تتحمل، ولا تحاكمها بإسقاط وتوطين تجارب الآخرين .وفي هذا السياق يمكننا أن نجمل أهم الصعوبات التي تعترض الباحث في هذا المجال في مايلي:
1- الاختلاف بين الباحثين في تحديد مفهوم المقاومة ومدى انطباقه على التجربة الموريتانية.
2- كون الوقائع التاريخية المتعلقة بالمقاومة المسلحة لم تحصر لحد اليوم في الزمان ولا في المكان .
3- غياب الوثيقة المحايدة بحكم العزلة وقسوة الظروف وعدم إغراء الميدان .
4- انقسام النخبة العالمة في المجتمع بشأن النازلة الاستعمارية وأثر ذلك في تدوين الوقائع .
5- الاعتماد المفرط على الوثائق الفرنسية التي اختفى منها الكثير، وتعذر الحصول على نسخها الأصلية.
6 ـ الطبيعة الانتقائية للمعلومة وتداولها بشكل مختلف بل ومتناقض في الفضاءات القبلية المتعددة بحثا عن الشهرة للأقربين وأهل الولاء أوسعيا للتشهير بالخصوم والأعداء .
7- قلق الولاء حيث كان الانتقال من معسكر إلى آخر يتم بسهولة لافتة.
8 - ما يلاحظ من خلط مقصود بين فعل المقاومة المشرف، وبعض مظاهر النهب والسلب واستهداف بعض الخصوم التقليديين تحت طائلة التسويغ الديني لأطراف قطبي القبول والرفض’
9- ضعف الذاكرة الوطنية و تدني مستوى الوعي التاريخي بقيمة الرموز والثوابت المشتركة.
10ـ ضمور درس المقاومة في المقررات المنهجية في جميع مراحل التعليم النظامي.
11- غيابها المطلق في مدونات تاريخ حركات التحرر العربية والإفريقية.أمثلة من معارك المقاومة:
لقد عرفت الثغور الجنوبية الغربية للبلاد حروبا استباقية للوجود الفرنسي في المنطقة تحت لواء أميري اترارزة أعمر ولد المختار(1800-1829) وأبنه محمد لحبيب ( 1829- 1860) فحققا انتصارات معروفة خلدتها المدونات المحلية والأوربية، قبل أن تبدأ الموازين الحربية في الميل لصالح الفرنسيين، الذين بدأوا يخططون لوضع اليد على الإقليم الموريتاني مما أثار مخاوف بعض النخب العالمة التي استشعرت خطر الغزو النصراني الجاثم على الثغور وطالبت بالتصدي له برص الصفوف والاستنفار والحرب الاقتصادية إن اقتضت الضرورة . ومع مطالع القرن العشرين، وفي ضوء متغيرات جديدة، احتدم الجدال الفقهي بين قادة الرأي من كبار العلماء والمتصوفة بشأن الموقف الشرعي من وجود الفرنسيين في البلاد، فرأى البعض أنه ضرورة لأمن البلاد وصون لدماء العباد ومصلحة عليا من مصالح المسلمين، وإلى ذلك ذهب الشيخان باب ولد الشيخ سيديا وسعد بوه بن الشيخ محمد فاضل وغيرهما من قادرية القبول . وفي مواجهة هذا التيار برزت رؤية أخرى نظر لها وتزعمها الشيخ ماء العينين وأبناء مايابا والشيخ سيد المختار ولد أحمد الهادي والشيخ عبد الجليل ولد الشيخ القاضي وابن حبت وغيرهم ودعت إلى الجهاد أو الهجرة ومثلت المرجع الفكري للمقاومة، ثم تعززت لاحقا بتجربة الشيخ أحمد حماه الله وخطه الجهادي المعلن . والواقع أن المقاومة العسكرية في مناطق الجنوب الغربي الموريتاني لا سيما في أراضي إمارتي الترارزة والبراكنة مطلع القرن العشرين ، لم تكن في مستوى الحدث الاستعماري وكانت إسهاماتها محدودة، ويرجع ذلك إلى جملة من العوامل الذاتية والموضوعية من أهمها التأثير الكبير لبعض شيوخ الطريقة القادرية الذين أعلنوا منذ البداية مساندتهم لفرنسا، والذين أفتوا بجواز بل بوجوب التعاون معها، بغية تحقيق الأمن، وضمان العدالة، على حد رأيهم، وكان طبيعيا أن تجد فتاويهم "المسالمة" صداها في تلك الربوع لاسيما أن معظم السكان واقعون تحت تأثير الطريقة القادرية ويدين أكثرهم بالولاء لهؤلاء الشيوخ. والعامل الثاني هو تراجع قوة إمارتي الترارزة والبراكنة، اللتين كانتا تعيشان منذ العقود الأخيرة من القرن التاسع عشر أزمة داخلية متمثلة في الركود الاقتصادي والتفكك السياسي، والصراع على السلطة، وبحلول القرن العشرين كانتا قد بلغتا من الوهن وهشاشة النظام ما أفسح المجال أمام الفرنسيين للتدخل في شؤونهما الداخلية تمهيدا لاحتلالهما . ولبلوغ ذلك الهدف سعوا إلى تشجيع المنافسة على كرسي الإمارة وعمليات الغدر والاغتيالات، وكانوا يناصرون القاتل والمقتول في الوقت نفسه، فعمت الفوضى، وشاع النهب والسلب في تينك الإمارتين، مما أضر بالسكان وساعد الفرنسيين على تمرير مخططهم الاستعماري السلمي كما كانوا يصفونه؟. وإلى جانب هذين العاملين تضاف طبيعة تضاريس المنطقة المكشوفة مما يجعل المواجهة العسكرية فيها أمرا صعبا للغاية، ومحفوفا بالمخاطر، إذا ما أخذنا بنظر الاعتبار تواضع الامكانات العسكرية لدى السكان مقابل معسكر الفرنسيين الذي كان يتحرك وفق ضوابط عسكرية محكمة الدقة والتنظيم، والذي كان هدفه القضاء على أية مقاومة مفترضة . والواقع أن كبولاني، على الرغم من نجاح تخميناته في العديد من المرات لم يتمكن من احتلال تكانت إلا بعد مجهود حربي كبير وخسارة مادية وبشرية موجعة، بل إنه راح ضحية سوء تقديراته، ففي تكانت ذات الجبال والمسالك الوعرة، ترابط قبائل إدوعيش المحاربة وحلفاؤها من قادة قبائل البراكنة والترارزة الرافضين للوجود الفرنسي، والقيادة السياسية هناك ممثلة في شخص الأمير بكار بن أسويد أحمد المعروف بعدائه الشديد للفرنسيين، هذا فضلا عن التأثير القوي للعلماء والمتصوفة الرافضين للوجود الفرنسي من أمثال أبناء مايابا ، وهذه العوامل مجتمعة وفرت الأسس الموضوعية لاندلاع مقاومة مسلحة قوية ارتبط نشاطها بحماس ديني كبير، وأثبتت كفاءتها في العديد من المواقع باعتراف الفرنسيين أنفسهم. ويمكن أن نقسم تاريخ المقاومة المسلحة خلال الثلث الأول من القرن العشرين، إجرائيا، إلى ثلاث مراحل أساسية: المرحلة الأولى:
من سنة 1903 إلى 1905 وكان مسرحها ببلاد اترارزة ولبراكنة وتكانت وأرقيبة، ومن أهم معاركها:
معركة أخروفة في07 يونيو1903
معركة سهوت الماء في 22 يونيو1903
معركة أكويبنات في 08 دجمبر1903
معركة ألاك في 18 دجمبر1903
معركة مال في 28 دجمبر 1903،
معركة ميت في 17 فبراير1904
كوصاص في 05 مارس1904
معركة التاكلالت في 12مارس 1904
معركة أمبود في 15 فبراير1905
معركة دركل في 25 فبراير1905
ومعركة تنشيبه في 10 مارس1905
معركة بوكادوم في 01 إبريل 1905
معركة تجكجة في 12 مايو 1905
معركة جنوب تجكجة في 18 مايو1905
معركة أشاريم في 03 يونيو 1905 .
وقد جربت المقاومة في هذه المرحلة أسلوب الكمائن والغارات الخاطفة وأغلب أساليب حرب العصابات، وكانت معاركها متقطعة، وشارك فيها محاربون من خارج مجالهم، وكانت خسائرها نوعية حيث استشهد من القادة الأمير بكار ولد أسويد أحمد في غرة إبريل سنة 1905، والشريف سيدي ولد مولاي الزين في 12 مايو 1905، و قتل كبولاني في تجكجة مساء الثاني عشر مايو1905.المرحلة الثانية: من سنة 1905 إلى 1912، وقد جرت أغلب عملياتها في تكانت وآدرار وأكجوجت وكيدىماغا ولبراكنة وآفله و تيرس ونواذيبو وتميزت بتحفز القبائل للقتال بعد مقتل كبولاني و بتنامي العمل العسكري، ولا سيما بعد حصار تجكجة، وظهور قيادة جديدة ممثلة في الشريف مولاي إدريس، إضافة إلى طبيعة الميدان الملائم لحرب العصابات، وبعد المنطقة من دائرة التأثير المباشر لقادرية القبول.
ومن أشهر معارك هذه المرحلة :
معركة النيملان في 25 أكتوبر 1906
معركة نوا ملين في 30 أكتوبر 1906
معركة أعكيلة النعجة في 10 نفمبر 1906
حصار تجكجة من 6 إلى 30 نوفمبر 1906
معركة كيديماغا في 15 نفمبر 1906
معركة كندلك في 15 فبراير 1907
معركة سرك في 26 فبراير 1907
معركة اتويزكت في 01 إبريل 1907
معركة أحواز بتلميت في 03 يوليو 1907
معركة أبيار بوكطاره في 04 يوليو 1907
معركةأكنى أم لبحير في سبتمبر 1907
معركة أم لعويتكات في 19 يناير 1908
معركة اللبة في 10 فبراير 1908
معركة أكرارت لفرص في 01 مارس 1908
معركة أعكيلة الركبة في 16 مارس1908
معركة يغرف 20مارس 1908
معركة أبيار دمان في 17 إبريل 1908
معركةالعزلات في 04يونيو 1908
معركة المينان في 13 يونيو 1908
معركة تالمست في 14 يونيو 1908
معركة نواذيبو في 22 يونيو 1908
معركة برجيمات في 24 يوليو 1908
معركة الرشيد في 15 أغشت 1908
معركة أتويزكت الثانية في 19 سبتمبر 1908
معركة لتفتار في 15 أكتوبر 1908
معركة شكار في 24 أكتوبر 1908
معركة لكويشيش في 28 نفمبر 1908
معركة شمط في 25 دجمبر 1908
معركة تيفوجار في 26 دجمبر 1908
معركة آزويكة في 28 دجمبر 1908
معركة حمدون في 30 دجمبر 1908
معركة أماتيل 30 دجمبر 1908
معركة واد سكليل في 08 يناير 1909
معركة اللبة الثانية في 01إبريل 1909
معركة آغسرميت في 28 إبريل 1909
معركة أعكيلت النعجة الثانية في 30 مايو 1909
معركة المجرية في 03يونيو 1909
معركة أوجفت في 08 يوليو 1909
معركة أكصير الطرشان في 28 يوليو 1909
معركة وادان في 31 يوليو 1909
معركة تورين في 15 أغشت 1909
معركة تيجريت في 01 مارس 1910
معركة حاس العركوب في 13 يونيو 1910
معركة أجار لعصابة في 02 مايو 1911
معركة أفام لخذيرات في20 مايو 1911
معركة تشيت في 13 يناير 1912
معركة ولاتة في 27 يناير 1912
معركة أجار في 21 أكتوبر 1912على أن مكاتبة الأمير أحمد ولد الديد في 18 دجمبر 1908، وقبول محمد ولد الخليل للحماية الفرنسية في 22 سبتمبر 1909 ووفاة الشيخ ماء العينين في 18 أكتوبر 1910، وأسر أمير آدرار في 13 يناير 1912.قد أثرت سلبا على أداء المقاومة . نظرا للدور القيادي لهذه الشخصيات ومكانتها السامقة في التاريخ الاجتماعي و العسكري للمنطقة.المرحلة الثالثة: وتمتد من 1913 إلى 1934، وكان مركز ثقلها في آدرار وتيرس والصحراء الغربية وبعض أحواز الحوض، وكان لأبناء وتلاميذ الشيخ ماء العينين وأمير آدرار سيد أحمد ولد عيده ولأغلب قبائل الساحل الدور الأكبر فيها. غير أن بعض أحداث المرحلة قد أربك المقاومة وحد من فاعليتها في مراحل مختلفة من ذلك مثلا محاولة الشيخ الهيبة تنصيب نفسه سلطانا في المغرب في 06 مايو 1912 ومعاركه مع الفرنسيين في الشمال، إضافة إلى أزمة القيادة في إمارة آدرار، وإكراهات انتجاع القبائل، وظروف الحرب العالمية، وتشديد الرقابة على استيراد الأسلحة، وانتشار مرض الحمى الصفراء في العديد من المناطق الموريتانية ومن أهم معارك هذه المرحلة :
معركة لبيرات في 10 يناير 1913
معركة لكليب لخظر في 09 مارس 1913
معركة واد التكليات في 10 مارس 1913
معركة أعكيلة النمادي في 30 يوليو 1913
معركة بوتليس في 18 سبتمبر 1913
معركة شلخت أصنادره في 20 فبراير 1917
معركة يوم لخويب في 10 مارس 1917
معركة لكويسي في 15 مارس 1917
معركة لمزرب في 23 دجمبر 1920
معركة انواذيبو الثانية في 03 مارس 1923
معركة كدية الجل في05 إبريل 1923
معركة أجريف في 20 إبريل 1923
معركة بوكرن في 05 مايو 1924
معركة لقديم في 12 مايو 1924
معركة شنقيط في 20 مايو 1925
معركة أطريفية في 25 يونيو 1925
معركة توجنين في 06 سبتمبر 1932
معركة آقوينيت في غرة يناير 1923
معركة وديان الخروب في 19 مارس 1932
معركة أم التونسي في 18 أغشت 1932
معركة ميجيك في 31 يناير 1933
واستنادا إلى مذكرات الجنرال غورو في آدرار، ومذكرات النقيب ديفور الموسومة: "تاريخ العمليات العسكرية في موريتانيا"، والرائد جيليي في كتابه عن" التوغل الفرنسي في موريتانيا"، والجنرال برتومي في كتابه: "جمالة في موريتانيا "هناك شبه تواتر على:المستوى النوعي للعملية الجريئة التي نفذتها المقاومة في تجكجة يوم 12 مايو 1905 بقيادة الشريف سيدي ولد مولاي الزين وقيادات إديشلي من مريدي الطريقة القظفية، والتي أسفرت عن قتل قائد الحملة الفرنسية كبولاني واستشهاد سيدي وبعض المجاهدين.
الدور المحوري الذي أداه الشيخ ماء العينين ومريدوه في قيادة وتأطيرالعمل العسكري في المجال الشنقيطي
الوجود المكثف للعلماء والأمراء والقيادات العشائرية في مقدمة ركب المقاومة وفي أغلب معاركها في عموم التراب الموريتاني
أن عمليات المقاومة المسلحة قد دامت أكثر من ثلاثة عقود وكادت تغطي المجال المعروف ببلاد شنقيط
أن أكثر من سبعة وتسعين معركة قد جرت في جهات البلاد المختلفة بقيادة فردية أو مشتركة
أن ستة من هذه المعاركه قد شهدت مقتل القادة الميدانيين الفرنسيين.
أن أغلب فئات وأعراق المجتمع الموريتاني شاركت بمقدار في هذه المقاومة كل حسب ظروفه وقابلياته.
أن أساليب المقاومة قد اتخذت أشكالا مختلفة من العمل العسكري و الممانعة الاجتماعية، والمقاطعة الثقافية، والحصار الاقتصادي وتسميم الآبار، والهجرات الفردية والجماعية.
أنه في الفترة من 1903 إلى 1920 بلغ عدد القتلى من الفرنسيين والمجندين 603 بينما كانت خسائر المقاومة 963 شهيدا رغم فارق التسليح ولم يؤسر من المقاومين خلال سبعة عشر عاما إلا القليل و في ثلاث معارك متفرقة.
وسيصل عدد الخسائر البشرية، طبقا للمصادر المذكورة، مع توقف العمل العسكري في منتصف الثلاثينات إلى 1062 شهيدا و645 من المعسكر الآخر. ـ ويعدد ليوفيسكي واحدا وعشرين ضابطا فرنسيا قتلوا في مناطق آدرار والساحل في الفترة من 30 دجمبر 1908 إلى 14 مارس 1932 راجيا من الفرنسيين تخليدهم في سجل الأبطال
وحتى لا تكون قراءتنا لتاريخ المقاومة منقحة ولا منتقاة لا بد من تأشير بعض مواطن الخلل في أداء القوم من قبيل:
قلق الولاء حيث كان الانتقال من معسكر إلى آخر يتم بسهولة لافتة للنظر مما يسيئ إلى السمعة المشرفة للبعض ، وأحيانا يعيد الاعتبار للبعض من من كانوا في ركب الاحتلال ، وهذه الظاهرة الغريبة لم تكن إلا مظهرا من مظاهر الانتجاع في مجتمع مسكون بهاجس الرحيل، حتى في سياق المواقف المصيرية، ولعلها عيب خلقي مازال يلازمنا اليوم ويطوح بأغلبنا بين المولاة والمعارضة وبين اليسار واليمين بعد حوالي خمسين سنة من تاريخ الاستقلال.
ما تتضمنه الوثائق الفرنسية من إثباتات تتعلق بسعي بعض السادة والكبراء في المجتمع إلى القيام بدور المخبرين وحملة البريد غير المكتوب، لدرجة أحرجت بعض القادة الفرنسيين وحكام الدوائر، ولا سبيل إلى فصل الحديث عنها اليوم صونا لأعراض هؤلاء ، علما بأن مثل هذا السلوك يؤكد القاعدة التي تقول بأن الأوطان تسقط من الداخل قبل أن تستهدف من الخارج.
ما يلاحظ من خلط مقصود بين فعل المقاومة المشرف، وبعض مظاهر النهب والسلب واستهداف بعض الخصوم التقليديين تحت طائلة التسويغ الديني لأطراف قطبي القبول والرفض وهي ظاهرة كثيرا ما لازمت الحروب على امتداد تاريخ البشرية ولسنا فيها بدعا من غيرنا.
وصفوة القول إن الموريتانيين على الرغم من ضعف الوسائل، وتواضع الامكانات، وغياب قيادة موحدة وثابتة، ورغم قوة الخصم، وتأثير حلفائه المحليين، قد قاوموا الاحتلال الفرنسي بثبات وتفان، شهد به القادة العسكريون والكتاب الفرنسيون، فهذا غورو يقول: "... ليس باستطاعة من لم ير البيظان يقاتلون أن يدرك مدى بسالتهم... إنهم لا يملكون من السلاح إلا بنادقهم العتيقة، ورصاصها والخناجر، تراهم يختفون خلف أبسط حاجز يطلقون الرصاص، ويغيرون مواقعهم، تماما كما تفعل الوحوش" ، ومن جانبه يقول دشاسي: "... إنه إذا كانت فرنسا قد استطاعت إثبات حقوقها في هذه المنطقة (يعني موريتانيا) في مواجهة دول عظمى، خلال بضع سنوات، فإن فرض ذلك على هذا الشعب البدوي قد اقتضى ثلاثين سنة" . وعلى الجبهة الثقافية: مثلت مقاطعة المدرسة الاستعمارية، رغم ما انجر عنها من تبعات،سلاحا آخر من أسلحة المقاومة، ربما كان أصدق أنباء من السيف، فكانت المحظرة والزاوية والمسجد دروعا واقية وصمامات أمان للهوية العربية الإسلامية ولقيم المجتمع وموروثه الحضاري بكل مظاهره وتجلياته، ولعل مصداق هذا الحكم ما شهد به الحاكم الفرنسي العام في غرب إفريقيا في رسالة له إلى وزير المستعمرات يقول فيها" لقد وجدنا أمامنا شعبا يملك ماضيا مليئا بالأمجاد والفتوح مازالت عالقة في أذهانه... ومن الخطإ أن نقارنه بالشعوب الأخرى ذات التقاليد الأضعف والشعور الوطني الخافت" وإلى ذلك أشار الإداري الفرنسي Beyris بيري في تقرير سري في 20 أغشت سنة 1937 حين قال في سياق لا يخلو من المبالغة: " إنه لا يوجد مجتمع بدوي يبلغ مبلغ الموريتانيين في العلم بالعقيدة والأدب والفقه ... وإنهم ليتحدثون العربية الفصحى أحسن مما يتحدث بها سكان تونس والقاهرة... ولا تكاد تجد بينهم راعي إبل من أبسط الرعاة إلا ويترنم بالشعر الجاهلي"
وختاما لهذه المداخلة التي أردت لها أن تكون إثارة للموضوع لا إثراءا له، فإنني أرى أنه من المناسب أن يتوجه تفكيرنا نحو:
الشروع في مسح شامل للرواية الشفهية حول المقاومة في مظانها المختلفة وتدارك من بقي من الرواة. ـ بناء ذاكرة وطنية تعتز بالرموز والثوابت الحضارية تعكسها المقررات المدرسية والجامعية، وتنال حيزا مهما في وسائل الإعلام الرسمية والحرة. ـ العناية برجال المقاومة وتخليد مآثرهم ضمن رؤية وطنية تتجاوز المحابس القبلية والعرقية والجهوية ودروس المناقب، تأكيدا لمفهوم الدولة واحتراما لسيادتها، وترسيخا لقيم المواطنة والوعي المدني. ـ التفكير في إنشاء مؤسسة وطنية لتاريخ المقاومة يعهد إليها بجمع وتركيب ونقد هذا التاريخ، وتسند وصايتها لقطاعي التعليم والثقافة، تناط بها مهمة بناء معرفة تاريخية جادة تنطلق من نقد ما تنتجه الذات عن نفسها وما ينتجه الآخر عنها.
تأسيس متحف للتاريخ العسكري يؤرخ للمقاومة، ويجسد معاركها، ويحتضن صنوف الأسلحة التقليدية المستخدمة. ـ العناية بوثائق المقاومة باعتبارها ذاكرة أمة، وانتشالها من أيدي الإداريين، وإلحاقها بمؤسسات البحث العلمي، واسترجاع ما هو موجود منها في الأرشيفات الأجنبية. ـ تعريب الكتب المصدرية المتعلقة بتاريخ الاستعمار والمقاومة، ونشر الأطروحات التي عالجت هذا الموضوع ليعم نفعها. ـ تنسيق جهود المؤسسات المهتمة بحقل الدراسات التاريخية قسم التاريخ-مخبر الدراسات التاريخية- الجمعية التاريخية الموريتانية، جمعية التاريخ العسكري، المعهد الموريتاني للبحث العلمي. ـ تسهيل وصول الدارسين إلى مظان المصادر الوثائقية المتعلقة بالمقاومة، واعتماد أساليب البحث الجماعي الذي تتضافر فيه جهود مختلف الاختصاصات المتجاورة والمترابطة. ـ توسيع مدارك الأجيال الجديدة من الباحثين في ميدان التاريخ العسكري، بتدريس اللغات وعلم التوثيق والضوابط العلمية الضرورية للكتابة التاريخية.
الوجود المكثف للعلماء والأمراء والقيادات العشائرية في مقدمة ركب المقاومة وفي أغلب معاركها في عموم التراب الموريتاني
أن عمليات المقاومة المسلحة قد دامت أكثر من ثلاثة عقود وكادت تغطي المجال المعروف ببلاد شنقيط
أن أكثر من سبعة وتسعين معركة قد جرت في جهات البلاد المختلفة بقيادة فردية أو مشتركة
أن ستة من هذه المعاركه قد شهدت مقتل القادة الميدانيين الفرنسيين.
أن أغلب فئات وأعراق المجتمع الموريتاني شاركت بمقدار في هذه المقاومة كل حسب ظروفه وقابلياته.
أن أساليب المقاومة قد اتخذت أشكالا مختلفة من العمل العسكري و الممانعة الاجتماعية، والمقاطعة الثقافية، والحصار الاقتصادي وتسميم الآبار، والهجرات الفردية والجماعية.
أنه في الفترة من 1903 إلى 1920 بلغ عدد القتلى من الفرنسيين والمجندين 603 بينما كانت خسائر المقاومة 963 شهيدا رغم فارق التسليح ولم يؤسر من المقاومين خلال سبعة عشر عاما إلا القليل و في ثلاث معارك متفرقة.
وسيصل عدد الخسائر البشرية، طبقا للمصادر المذكورة، مع توقف العمل العسكري في منتصف الثلاثينات إلى 1062 شهيدا و645 من المعسكر الآخر. ـ ويعدد ليوفيسكي واحدا وعشرين ضابطا فرنسيا قتلوا في مناطق آدرار والساحل في الفترة من 30 دجمبر 1908 إلى 14 مارس 1932 راجيا من الفرنسيين تخليدهم في سجل الأبطال
وحتى لا تكون قراءتنا لتاريخ المقاومة منقحة ولا منتقاة لا بد من تأشير بعض مواطن الخلل في أداء القوم من قبيل:
قلق الولاء حيث كان الانتقال من معسكر إلى آخر يتم بسهولة لافتة للنظر مما يسيئ إلى السمعة المشرفة للبعض ، وأحيانا يعيد الاعتبار للبعض من من كانوا في ركب الاحتلال ، وهذه الظاهرة الغريبة لم تكن إلا مظهرا من مظاهر الانتجاع في مجتمع مسكون بهاجس الرحيل، حتى في سياق المواقف المصيرية، ولعلها عيب خلقي مازال يلازمنا اليوم ويطوح بأغلبنا بين المولاة والمعارضة وبين اليسار واليمين بعد حوالي خمسين سنة من تاريخ الاستقلال.
ما تتضمنه الوثائق الفرنسية من إثباتات تتعلق بسعي بعض السادة والكبراء في المجتمع إلى القيام بدور المخبرين وحملة البريد غير المكتوب، لدرجة أحرجت بعض القادة الفرنسيين وحكام الدوائر، ولا سبيل إلى فصل الحديث عنها اليوم صونا لأعراض هؤلاء ، علما بأن مثل هذا السلوك يؤكد القاعدة التي تقول بأن الأوطان تسقط من الداخل قبل أن تستهدف من الخارج.
ما يلاحظ من خلط مقصود بين فعل المقاومة المشرف، وبعض مظاهر النهب والسلب واستهداف بعض الخصوم التقليديين تحت طائلة التسويغ الديني لأطراف قطبي القبول والرفض وهي ظاهرة كثيرا ما لازمت الحروب على امتداد تاريخ البشرية ولسنا فيها بدعا من غيرنا.
وصفوة القول إن الموريتانيين على الرغم من ضعف الوسائل، وتواضع الامكانات، وغياب قيادة موحدة وثابتة، ورغم قوة الخصم، وتأثير حلفائه المحليين، قد قاوموا الاحتلال الفرنسي بثبات وتفان، شهد به القادة العسكريون والكتاب الفرنسيون، فهذا غورو يقول: "... ليس باستطاعة من لم ير البيظان يقاتلون أن يدرك مدى بسالتهم... إنهم لا يملكون من السلاح إلا بنادقهم العتيقة، ورصاصها والخناجر، تراهم يختفون خلف أبسط حاجز يطلقون الرصاص، ويغيرون مواقعهم، تماما كما تفعل الوحوش" ، ومن جانبه يقول دشاسي: "... إنه إذا كانت فرنسا قد استطاعت إثبات حقوقها في هذه المنطقة (يعني موريتانيا) في مواجهة دول عظمى، خلال بضع سنوات، فإن فرض ذلك على هذا الشعب البدوي قد اقتضى ثلاثين سنة" . وعلى الجبهة الثقافية: مثلت مقاطعة المدرسة الاستعمارية، رغم ما انجر عنها من تبعات،سلاحا آخر من أسلحة المقاومة، ربما كان أصدق أنباء من السيف، فكانت المحظرة والزاوية والمسجد دروعا واقية وصمامات أمان للهوية العربية الإسلامية ولقيم المجتمع وموروثه الحضاري بكل مظاهره وتجلياته، ولعل مصداق هذا الحكم ما شهد به الحاكم الفرنسي العام في غرب إفريقيا في رسالة له إلى وزير المستعمرات يقول فيها" لقد وجدنا أمامنا شعبا يملك ماضيا مليئا بالأمجاد والفتوح مازالت عالقة في أذهانه... ومن الخطإ أن نقارنه بالشعوب الأخرى ذات التقاليد الأضعف والشعور الوطني الخافت" وإلى ذلك أشار الإداري الفرنسي Beyris بيري في تقرير سري في 20 أغشت سنة 1937 حين قال في سياق لا يخلو من المبالغة: " إنه لا يوجد مجتمع بدوي يبلغ مبلغ الموريتانيين في العلم بالعقيدة والأدب والفقه ... وإنهم ليتحدثون العربية الفصحى أحسن مما يتحدث بها سكان تونس والقاهرة... ولا تكاد تجد بينهم راعي إبل من أبسط الرعاة إلا ويترنم بالشعر الجاهلي"
وختاما لهذه المداخلة التي أردت لها أن تكون إثارة للموضوع لا إثراءا له، فإنني أرى أنه من المناسب أن يتوجه تفكيرنا نحو:
الشروع في مسح شامل للرواية الشفهية حول المقاومة في مظانها المختلفة وتدارك من بقي من الرواة. ـ بناء ذاكرة وطنية تعتز بالرموز والثوابت الحضارية تعكسها المقررات المدرسية والجامعية، وتنال حيزا مهما في وسائل الإعلام الرسمية والحرة. ـ العناية برجال المقاومة وتخليد مآثرهم ضمن رؤية وطنية تتجاوز المحابس القبلية والعرقية والجهوية ودروس المناقب، تأكيدا لمفهوم الدولة واحتراما لسيادتها، وترسيخا لقيم المواطنة والوعي المدني. ـ التفكير في إنشاء مؤسسة وطنية لتاريخ المقاومة يعهد إليها بجمع وتركيب ونقد هذا التاريخ، وتسند وصايتها لقطاعي التعليم والثقافة، تناط بها مهمة بناء معرفة تاريخية جادة تنطلق من نقد ما تنتجه الذات عن نفسها وما ينتجه الآخر عنها.
تأسيس متحف للتاريخ العسكري يؤرخ للمقاومة، ويجسد معاركها، ويحتضن صنوف الأسلحة التقليدية المستخدمة. ـ العناية بوثائق المقاومة باعتبارها ذاكرة أمة، وانتشالها من أيدي الإداريين، وإلحاقها بمؤسسات البحث العلمي، واسترجاع ما هو موجود منها في الأرشيفات الأجنبية. ـ تعريب الكتب المصدرية المتعلقة بتاريخ الاستعمار والمقاومة، ونشر الأطروحات التي عالجت هذا الموضوع ليعم نفعها. ـ تنسيق جهود المؤسسات المهتمة بحقل الدراسات التاريخية قسم التاريخ-مخبر الدراسات التاريخية- الجمعية التاريخية الموريتانية، جمعية التاريخ العسكري، المعهد الموريتاني للبحث العلمي. ـ تسهيل وصول الدارسين إلى مظان المصادر الوثائقية المتعلقة بالمقاومة، واعتماد أساليب البحث الجماعي الذي تتضافر فيه جهود مختلف الاختصاصات المتجاورة والمترابطة. ـ توسيع مدارك الأجيال الجديدة من الباحثين في ميدان التاريخ العسكري، بتدريس اللغات وعلم التوثيق والضوابط العلمية الضرورية للكتابة التاريخية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق