وصل
فريد حسن لأول مرة إلى موريتانيا قبل أربعين عاماً، كمدرس لعلم النفس في
إطار التعاون بين سوريا وموريتانيا، وها هو اليوم يعود إليها بعد غياب دام
أكثر من ربع قرن، وبين هذا وذاك تتنوع محطات الرجل القادم من حلب الشهباء
إلى هذه الصحراء، في زمن كان الشعر والموسيقى هما أكثر ما يتعاطاه أهل هذه
البلاد.
على غرار العديد من الأساتذة العرب في سبعينيات وستينيات القرن الماضي، وصل فريد حسن إلى نواكشوط ليصبح مدرساً في مدرسة تكوين المعلمين، إلا أن رحلة أخرى كانت في انتظاره برفقة شعراء وفنانين موريتانيين، جعلته واحداً من الذين تركوا بصمتهم في الموسيقى الموريتانية الحديثة.
عاد فريد حسن إلى موريتانيا فأيقظ ذكريات الكثير من أبناء جيله، ومن الشباب الذين عرفوا أغانيه للأطفال قبل عقود عبر أثير إذاعة موريتانيا، ولكن الماضي الجميل لفريد حسن في موريتانيا يغيب في سحابة الحاضر الحزين، فالحرب التي دمرت مدينته "حلب"، أوقفت مشاريعه التعليمية وشردت أسرته وتركته لاجئاً في بلجيكا.
بداية القصة
"لقد تغيرت نواكشوط كثيرا منذ آخر عهدي بها، فخمسة وعشرون عاما ليست بالمدة القصيرة"، هكذا يتحدث فريد حسن إلينا في باحة الفندق الذي يقيم فيه بحي تفرغ زينه بنواكشوط التي غادرها عام 1990.
بدأت قصة فريد حسن مع موريتانيا حينما وصلها كمدرس في 23 من مارس عام 1977، في إطار التعاون السوري الموريتاني؛ درس مادة علم النفس في المدرسة الوطنية لتكوين المعلمين حديثة النشأة آنذاك، إذ أن معظم الدارسين فيها خلال تلك الفترة من طلاب "المحاظر" التقليدية ويحتاجون لبعض التأطير للانخراط في التدريس النظامي.
تولى تدريس مواد أخرى بشكل تطوعي، كلما حدث نقص في مدرسيها، فدرس التاريخ والجغرافيا، بالإضافة إلى الموسيقى التي كان يقدم فيها دروسا في مدرسة تكوين المعلمين.
يقول فريد حسن إن الواجب حينها كان يفرض عليه تدريس مواد غير التي انتدب لها أصلا، للمساهمة في نهوض بلد عربي ناشئ، هو في أمس الحاجة للمساعدة من أشقائه، والاستفادة من تجاربهم وهم الذين سبقوه في مجال التحضر، لا في الحضارة، على حد تعبيره.
لأسباب عائلية اضطر فريد حسن لمغادرة موريتانيا عائداً إلى بلاده قرابة العام 1979، حيث تنقل بين سوريا وألمانيا، قبل العودة إلى نواكشوط.
العودة الثانية
بعد عشر سنوات من الغياب (1989) عاد فريد حسن إلى موريتانيا، وهذه المرة باحثا عن عمل، فاشتغل كمدرس للغة الانجليزية في الثانوية العربية بنواكشوط، قبل أن يفسخ عقده مع الإذاعة الموريتانية "بطريقة غير قانونية" كما يقول، ويتعرض لمضايقات من قبل بعض القائمين عليها، ففكر في إقامة دعوى قضائية لاستعادة حقه، غير أنه تراجع عن ذلك.
لاحظ فريد خلال عودته الثانية أن الذاكرة الفنية الموريتانية بدأت تنساه، وهو الذي قدم أعمالا موسيقية عدية، تغنى بها الكبار والصغار، فعمل على تنشيطها بأعمال موسيقية جديدة، غير أن إقامته في موريتانيا لم تدم طويلا، فتوقف مشروعه الموسيقى لصالح مشاريع أخرى أسسها في سوريا، منها مدرسة كبيرة في مدينة حلب، أشرف عليها لعدة سنوات قبل أن تشتعل الحرب الأخيرة.
أغاني فريد
أجيال عديدة رددت في ساحات المدارس الموريتانية النشيد الشهير: "نشيد النور في شفتي، تعيش تعيش مدرستي"، دون أن تعلم أن فريد حسن هو من لحنها وأداها بصوته لتصل إلى معظم الأطفال في المدارس، على غرار أناشيد عديدة خلدت في ذاكرة أطفال موريتانيا، مررها فريد حسن عبر أثير الإذاعة لتدخل جميع البيوت.
يقدر فريد حسن أعماله الموسيقية في موريتانيا بالأربعين عملاً، ركزت في معظمها على تقديم الثقافة الموريتانية، في جوانب مختلفة منها، فتنوعت من أغاني "التبراع" إلى "أشوار" بالشعر اللهجي الملحون، وأغاني بالشعر الفصيح، فغنى لشعراء موريتانيين كبار من أمثال فاضل أمين، الخليل النحوي، كابر هاشم، أحمدو ولد عبد القادر، أحمدو مايح ومحمدن ولد سيد براهيم، وغيرهم كثيرون؛ كما أن تلحينه لأغنية "كتائب موريتانيا" تم اختياره من طرف إدارة إذاعة موريتانيا ليصبح اللحن المميز قبل جميع نشرات الأخبار الرئيسية، وهو ما استمر لسنوات عديدة.
رغم عودته إلى سوريا لم يترك فريد حسن تراثه الموسيقى في موريتانيا يندثر، فقام بتصوير عدد من أغانيه الشهيرة على شكل "فيديو كليب"، مؤكداً أنه بعث بها في أشرطة فيديو إلى التلفزة الموريتانية الرسمية من أجل بثها، وهو ما لم يقع مرجحاً إمكانية أن تكون قد ضاعت في الطريق، من دون أن يستبعد تجاهلها من قبل المسؤولين.
ديمي الفريدة
يرى فريد حسن أن الفنانة الراحلة ديمي منت آب، كانت فنانة فريدة من نوعها، ويقول عندما سألناه عن علاقته بالفنانة الراحلة: "لن تنجب موريتانيا في الوقت القريب فنانة مثل ديمي، سواء على المستوى الإنساني أو الفني".
قدم معها العديد من الأعمال الفنية، كأغنية "درسك ياغلانة"، التي يقول إن أصلها في اللهجة الحسانية هي "كرسك يا اغلانة" أي "خصرك" يا غلانة، غير أن عدم معرفته حينها باللهجة الحسانية، جعله يبدل "الكرس" بالدرس، لكنه بعد ذلك بسنوات فهم معني الكلمة.
ولعل من الأغامي ذات الرمزية الكبيرة التي قدمها فريد حسن وديمي منت آب، أغنية "انت موريتانية وأنا من حلب" وهي الأغنية التي تثير شجون الرجل وأحزانه وهو يستعيد مآسي وأحزان مدينته.
يري الفنان السوري أن "ديمي منت آب" تتمتع بخصال قل من يتمتع بها في الساحة الفنية، بالإضافة إلى صوتها الساحر، فهي إنسانة كبيرة لا يقتصر إبداعها في مجال الموسيقي فقط، بل يطال جوانب كثيرة في الحياة، على حد تعبيره.
الفنان اللاجئ
عندما يبدأ فريد حسن الحديث عن تجربته في موريتانيا فهو لا يريد أن يصمت، يتحدث بعمق عن الإنسان الموريتاني، ولديه نظرة فلسفية لهذا الإنسان وعاداته والسر وراء شغفه بالموسيقى والشعر، ولكنه يتحدث بقدر كبير من الحنين لتلك السنوات الجميلة، إنها متعة استعادة الذكريات الدافئة في زمن أشعلت فيه الحروب كل شيء.
يجلس فريد حسن في بهو أحد الفنادق بنواكشوط، حيث يقيم ضيفاً لدى أحد معارفه القدماء، يرتدي الدراعة الموريتانية ويعلق الوسام الذي منح له في عيد الاستقلال الأخير، يلتقط أنفاسه عندما سألناه عن حلب، يتوقف عن الكلام ثم ينظر في الفراغ، ودمعة تتسلل لتسقط على طرف دراعته حيث ينام "وسام الشرف".
حتى وقت قريب كان فريد حسن يمتلك مدرسة من ثلاث طوابق في مدينة حلب، صاحب عقارات وعدد من السيارات، ويعيل أسرة كبيرة مستقرة، اندلعت الحرب فخسر كل شيء، وانفرط عقد العائلة ما بين مواطن اللجوء في السويد وألمانيا وبلجيكا وبريطانيا، أما فهو فوجد نفسه لاجئاً في بلجيكا يعاني أمراض الشيخوخة ويعيش على ذكريات الزمن الجميل.
على غرار العديد من الأساتذة العرب في سبعينيات وستينيات القرن الماضي، وصل فريد حسن إلى نواكشوط ليصبح مدرساً في مدرسة تكوين المعلمين، إلا أن رحلة أخرى كانت في انتظاره برفقة شعراء وفنانين موريتانيين، جعلته واحداً من الذين تركوا بصمتهم في الموسيقى الموريتانية الحديثة.
عاد فريد حسن إلى موريتانيا فأيقظ ذكريات الكثير من أبناء جيله، ومن الشباب الذين عرفوا أغانيه للأطفال قبل عقود عبر أثير إذاعة موريتانيا، ولكن الماضي الجميل لفريد حسن في موريتانيا يغيب في سحابة الحاضر الحزين، فالحرب التي دمرت مدينته "حلب"، أوقفت مشاريعه التعليمية وشردت أسرته وتركته لاجئاً في بلجيكا.
بداية القصة
"لقد تغيرت نواكشوط كثيرا منذ آخر عهدي بها، فخمسة وعشرون عاما ليست بالمدة القصيرة"، هكذا يتحدث فريد حسن إلينا في باحة الفندق الذي يقيم فيه بحي تفرغ زينه بنواكشوط التي غادرها عام 1990.
بدأت قصة فريد حسن مع موريتانيا حينما وصلها كمدرس في 23 من مارس عام 1977، في إطار التعاون السوري الموريتاني؛ درس مادة علم النفس في المدرسة الوطنية لتكوين المعلمين حديثة النشأة آنذاك، إذ أن معظم الدارسين فيها خلال تلك الفترة من طلاب "المحاظر" التقليدية ويحتاجون لبعض التأطير للانخراط في التدريس النظامي.
تولى تدريس مواد أخرى بشكل تطوعي، كلما حدث نقص في مدرسيها، فدرس التاريخ والجغرافيا، بالإضافة إلى الموسيقى التي كان يقدم فيها دروسا في مدرسة تكوين المعلمين.
يقول فريد حسن إن الواجب حينها كان يفرض عليه تدريس مواد غير التي انتدب لها أصلا، للمساهمة في نهوض بلد عربي ناشئ، هو في أمس الحاجة للمساعدة من أشقائه، والاستفادة من تجاربهم وهم الذين سبقوه في مجال التحضر، لا في الحضارة، على حد تعبيره.
لأسباب عائلية اضطر فريد حسن لمغادرة موريتانيا عائداً إلى بلاده قرابة العام 1979، حيث تنقل بين سوريا وألمانيا، قبل العودة إلى نواكشوط.
بعد عشر سنوات من الغياب (1989) عاد فريد حسن إلى موريتانيا، وهذه المرة باحثا عن عمل، فاشتغل كمدرس للغة الانجليزية في الثانوية العربية بنواكشوط، قبل أن يفسخ عقده مع الإذاعة الموريتانية "بطريقة غير قانونية" كما يقول، ويتعرض لمضايقات من قبل بعض القائمين عليها، ففكر في إقامة دعوى قضائية لاستعادة حقه، غير أنه تراجع عن ذلك.
لاحظ فريد خلال عودته الثانية أن الذاكرة الفنية الموريتانية بدأت تنساه، وهو الذي قدم أعمالا موسيقية عدية، تغنى بها الكبار والصغار، فعمل على تنشيطها بأعمال موسيقية جديدة، غير أن إقامته في موريتانيا لم تدم طويلا، فتوقف مشروعه الموسيقى لصالح مشاريع أخرى أسسها في سوريا، منها مدرسة كبيرة في مدينة حلب، أشرف عليها لعدة سنوات قبل أن تشتعل الحرب الأخيرة.
أغاني فريد
أجيال عديدة رددت في ساحات المدارس الموريتانية النشيد الشهير: "نشيد النور في شفتي، تعيش تعيش مدرستي"، دون أن تعلم أن فريد حسن هو من لحنها وأداها بصوته لتصل إلى معظم الأطفال في المدارس، على غرار أناشيد عديدة خلدت في ذاكرة أطفال موريتانيا، مررها فريد حسن عبر أثير الإذاعة لتدخل جميع البيوت.
يقدر فريد حسن أعماله الموسيقية في موريتانيا بالأربعين عملاً، ركزت في معظمها على تقديم الثقافة الموريتانية، في جوانب مختلفة منها، فتنوعت من أغاني "التبراع" إلى "أشوار" بالشعر اللهجي الملحون، وأغاني بالشعر الفصيح، فغنى لشعراء موريتانيين كبار من أمثال فاضل أمين، الخليل النحوي، كابر هاشم، أحمدو ولد عبد القادر، أحمدو مايح ومحمدن ولد سيد براهيم، وغيرهم كثيرون؛ كما أن تلحينه لأغنية "كتائب موريتانيا" تم اختياره من طرف إدارة إذاعة موريتانيا ليصبح اللحن المميز قبل جميع نشرات الأخبار الرئيسية، وهو ما استمر لسنوات عديدة.
رغم عودته إلى سوريا لم يترك فريد حسن تراثه الموسيقى في موريتانيا يندثر، فقام بتصوير عدد من أغانيه الشهيرة على شكل "فيديو كليب"، مؤكداً أنه بعث بها في أشرطة فيديو إلى التلفزة الموريتانية الرسمية من أجل بثها، وهو ما لم يقع مرجحاً إمكانية أن تكون قد ضاعت في الطريق، من دون أن يستبعد تجاهلها من قبل المسؤولين.
ديمي الفريدة
يرى فريد حسن أن الفنانة الراحلة ديمي منت آب، كانت فنانة فريدة من نوعها، ويقول عندما سألناه عن علاقته بالفنانة الراحلة: "لن تنجب موريتانيا في الوقت القريب فنانة مثل ديمي، سواء على المستوى الإنساني أو الفني".
قدم معها العديد من الأعمال الفنية، كأغنية "درسك ياغلانة"، التي يقول إن أصلها في اللهجة الحسانية هي "كرسك يا اغلانة" أي "خصرك" يا غلانة، غير أن عدم معرفته حينها باللهجة الحسانية، جعله يبدل "الكرس" بالدرس، لكنه بعد ذلك بسنوات فهم معني الكلمة.
ولعل من الأغامي ذات الرمزية الكبيرة التي قدمها فريد حسن وديمي منت آب، أغنية "انت موريتانية وأنا من حلب" وهي الأغنية التي تثير شجون الرجل وأحزانه وهو يستعيد مآسي وأحزان مدينته.
يري الفنان السوري أن "ديمي منت آب" تتمتع بخصال قل من يتمتع بها في الساحة الفنية، بالإضافة إلى صوتها الساحر، فهي إنسانة كبيرة لا يقتصر إبداعها في مجال الموسيقي فقط، بل يطال جوانب كثيرة في الحياة، على حد تعبيره.
الفنان اللاجئ
عندما يبدأ فريد حسن الحديث عن تجربته في موريتانيا فهو لا يريد أن يصمت، يتحدث بعمق عن الإنسان الموريتاني، ولديه نظرة فلسفية لهذا الإنسان وعاداته والسر وراء شغفه بالموسيقى والشعر، ولكنه يتحدث بقدر كبير من الحنين لتلك السنوات الجميلة، إنها متعة استعادة الذكريات الدافئة في زمن أشعلت فيه الحروب كل شيء.
يجلس فريد حسن في بهو أحد الفنادق بنواكشوط، حيث يقيم ضيفاً لدى أحد معارفه القدماء، يرتدي الدراعة الموريتانية ويعلق الوسام الذي منح له في عيد الاستقلال الأخير، يلتقط أنفاسه عندما سألناه عن حلب، يتوقف عن الكلام ثم ينظر في الفراغ، ودمعة تتسلل لتسقط على طرف دراعته حيث ينام "وسام الشرف".
حتى وقت قريب كان فريد حسن يمتلك مدرسة من ثلاث طوابق في مدينة حلب، صاحب عقارات وعدد من السيارات، ويعيل أسرة كبيرة مستقرة، اندلعت الحرب فخسر كل شيء، وانفرط عقد العائلة ما بين مواطن اللجوء في السويد وألمانيا وبلجيكا وبريطانيا، أما فهو فوجد نفسه لاجئاً في بلجيكا يعاني أمراض الشيخوخة ويعيش على ذكريات الزمن الجميل.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق