إن بلدا لا تَنشط فيه حركة النقد الحرة المسؤولة و تأخذ بالضرورة الملحة و الرضا المطلق مكانتها اللائقة لا يمكن أن ينصلح له حال أو يستتب له أمر، و لا أن يساير بالنتيجة من ذلك ديناميكية التطور. هذا لسان حال منطق الأشياء في كل عصر و قد خبرته في ضعفه و قوته كل الحضارات الكبيرة، اليونانية و الفارسية و الرومانية و الصينية و الهندية و الغربية و العربية الإسلامية.
و ليس النقد بطبيعته و في عمق و نبل رسالته سوى عملية إصلاح متجددة من أجل تكوين رؤية صحيحة و شاملة عن المواضيع مدار البحث و التقييم و التوجيه تؤدي بالنتيجة إلى وضوح الرؤية و صقل فحوى الرسائل و المقاصد من الشوائب و المثالب و تفتح الباب على مصراعيه للخلق و الإبداع.
و إذا كان النقد بهذا هو فقط أداة تصحيح، فإن غيابه أو على الأقل ضعف تجلياته يعتبر في هذه البلاد المجبولة على النقيضين "صلف الجبابرة" و "مجاملة المقهورين" بروح و فلسفة و مقتضى العمل بالأمثلة الشائعة "ليد أل ما صبت تكطع حبها" و "أل ريك ماه كد ريكك لا تسَّاف أمعاه ادكيك" و "يوم ما هلك زُوزُ" التي هي قانونها الساري المفعول في كل الظروف الزمكانية و الكاشف عن مدى القدرة على الحربائية في أطوار الضعف قبل الاستئساد خلال أطوار القوة؛ فإذا كان إذن هذا النقد عقبة كأداء أمام أي تحول يراد له أن يكون إيجابيا و حمال تغيير- من صميم سنن الكون الثابتة في حراكه الدائم ـ فهل أدرك هذه الحقيقة أهل البلد الذي نال استقلاله منذ سبعة و ستين عاما تنضاف إلى رصيد من السنين يناهز العقدين و نيف ظهرت أول إرهاصات الدولة القادمة من رحم "السيبة" و تجليات "اللادولة" فيها؛ بلد عرف ثلاثة أجيال من المتعلمين و حملة الشهادات العالية في شتى المعارف و بلغات العالم الحية، المتخرجين في الجامعات و المعاهد و المراكز العالية المرموقة ذات السمعة الكبيرة لأعظم الدول في كل قارات العالم ؟
لا شك في أن معرفة ذلك هو تحصيل حاصل و لكن تطبيق هذه المعارف و سحبها على الواقع أمر يتطلب إعادة نظر و شجاعة التصدي لتيارات الدفاع عن إرث منه هزيل وتضخيم المقزم منه بفعل الارتكاس الفكري و الالتحام العضوي بمفاهيم الماضي و اعتباراته السلبية و أولها الاستعلاء المعرفي الطوباوي و الترفع عن العمل الميداني.
و النقد انشطاري لا يسلم منه وجه من أوجه و أفعال ديناميكية الحياة و هو بوجهيها المادي الصرف و المعنوي الخفي لا يستغني عنه أي فن أو علم أو فكر أو إبداع ينشد له التدفق و التحسن و الاستمرار. فـ:
• نجاح المسارات السياسية رهين باتباع مفرزات النقد الذي يطالها في صيرورتها، يحاذيها فلا يفارقها حتى من بعد أن تؤتي أكلها المرحلي،
• و الحكامة يجنبها منزلقات التيه و الضياع و يقوم اعوجاجها و يخضعها لنير توجيهاته و تصويباته و صرامته،
• و الإبداع الأدبي شعرا و نثرا و الفني رسما و نحتا و مسرحا و سينما لا يستغني ، لبلوغ الشأو و مرحلة العطاء إلى روته، عن النقد المصاحب الذي لا يتبنى المجاملة و المحاباة و تجاوز الهنات و السقطات،
• و العلوم الإنسانية كلها لا تستغني عن عينه الفاحصة و تحسيناته المصاحبة لموضوعية التناول و جرأة الصراحة التي تصحح المغالطات و المسلكيات و الاستنتاجات بلا عقد أو تزييف،
• و لا حقول العطاء العلمي و الصناعي و تسويق البلد ماديا و معنويا و تاريخيا و سياحيا تستغني عن عين النقد الثاقبة الموجهة إلى تجاوز الأخطاء و نقاط الضعف و الإسفاف حتى بلوغ مراحل أحسن المراتب تقدما.
و بالطبع يوازي النقد البناء الذي ينشده المنطق السليم و تطمح إليه الإرادات المخلصة و الهمم العالية، نقد سلبي هدام، لا تسلم منه ساحات الحرب الدائمة بين الخير و الشر و التنوير و الظلامية و التقدم و الارتكاس و الديمقراطية و أساليب الحكم التعسفية، أساسه النفاق و الازدواجية اللذان يشكلان أكبر العوائق أمام أية نهضة.
و إن المتابع لواقع و حال بلاد الألقاب الكبيرة، أرض الملثمين من الحياء و المنارة و الرباط، و بلد المليون شاعر و حاضنة النوابغ و الأفذاذ و الألمعيين، و اللائحة طويلة، لا بد أن يلمس ركودا ثقافيا و فكريا مريعا و جمودا محبطا في كل ساحات الأداء، و كسلا و تثاقلا و هروبا من ميادين العطاء و العمل الميداني، وصدا عن مكامن الإبداع بقوة كل أفعال التقييد و القلوب و الظنون و التحايل. و إن الساحة العلمية و الأدبية و الميدانية لخالية على عروشها المهترئة من العمل و الإبداع و النشر، حيث لا وجود البتة لورش فكرية تقام و تنشد الرفع من مستوى البلد، و لا ندوات مفتوحة على مواضيع الساعة الملحة، تُقَيم المسار المتعثر منذ النشأة، و لا حركة علمية تأخذ بزمام المبادرة و التنفيذ من أيدي و الأجانب القادمين بفائض قدرات بلدانهم في الجوار، و الغربيين بملكاتهم التكنولوجية، و الصينيين بإعجازهم المذهل على مستوى الإشغال القاعدية التنموية، و لا نهضة فنية و رياضية تبوأ البلد مكانا يذكر على المنابر في شبه إقليمه و فضائه المغاربي و داخل قارته، و في عالميه العربي و الإسلامي، و تبشر بقيام منصات حيوية لـ:
• نقد سياسي مسؤول ينتشل من عبودية الضمير و يغربل "الكمية" الكبيرة من الأحزاب التي يحمل معظمها كل هواجس و مطامع و خيبة القبلية و العشائرية و الشرائحية و الانتهازية و الانتفاعية و التملق و النفاق، إذ الساحة مجسم لذات الصراعات التقليدية التي لا تشتعل نارا فتحرق الأرض لتخصبها بعد حين، و لا تكفر في جنباتها بذور الاكتفاء الذاتي من الممارسة الشريفة لفن يحمل إن صلح كل آمال الاستواء على أرضية صلبة و إن فسد كل مزالق الخيبة.
• و نقد أدبي جاد يتجنب فرسانه شراك التكرار، يتقصى الجديد، ينبذ المجاملة و ينافس بحداثته و قيمته الأدبية المجردة من التقعر المتجاوز و الأغراض القديمة الراكدة في مستنقعات الماضوية و أدبيات "السيبة".
• و نقد للممارسات الشاذة و المارقة على جوهر الدين السمح و تخالف رسالته العادلة المتحضرة و العادلة، و كشف مرتكبيها من المشعوذين، و المتألهين، الراكبين موجات الإدعاء بصناعة الخوارق و بالارتقاء إلى مراتب لا يدركها رفات البشر، المجتهدين لضرورات جمع المال و السيطرة و الجاه في تحليل و تحريم لمقتضيات كل ذلك.
• و نقد اجتماعي موجه يستحدث قوالب و أطر راقية ملتحمة بالمدنية في كل جوانبها الإيجابية التي تهذب الطباع و تزرع حب النظام و الانضباط و الجمال، و تعلي شأن الوطن.
الولي سيدي هيبه
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق