إنّ المتتبّع لمباريات كرة القدم والمتصفّح لقواعد هذه اللعبة يَجد أنّها تنطوي على جُلّ ما تحتاجه الممارسة السياسية النّاضِجة من شفافيّة، وسلاسة، ونبذ للعنف. كما يجدها ترتَكِزُ على العمل الجماعي، والجهد المشترك لأعضاء الفريق، ومراعاة معايير الكفاءة والخبرة في الاكتتاب، وجَعل الرّجل المناسب في المكان المناسب، والمراقبة، والمحسابة، و التجديد والتطوير الدّائمين، وتداوُل الكرة سلميا بين اللاّعبين، وتداوُل التّتويج والفَوز بين الفِرَق والدّول. كلّ خطإ فيها محسوب. وتضع كلّ اللاعبين تحت رقابة الحكّام، والجمهور، والمعلقين، والمتابِعين، بالإضافَة إلى الرّقابة بالصورة والصوت عبر خدمة "الفار"•
حبَذا لو تحوّلت السياسة فينا إلى رياضة، وتحوّلت ساحتها إلى ملعب يتبارى فيه الفريقان: فريق الموالاة وفريق المعارضة. وحبَذا لو استَلهَم رؤساؤنا وقادة أحزابنا دروسا من كرة القدم لجِهَة التخطيط، ورسم الأهداف، والمثابرة والعزيمة والصبر، وتداوُل الكرة، وتداوُل التّتويج بين المتنافسين. إنّ السياسة لا تختلف كثيرا عن كرة القدم في كونها سِباقا ومنافَسَة ومعركة. وهي مثل كرة القدم لا تخلو من مراوغة ومناورة وتكتيكات وخداع ضمن ما تسمح به قوانين اللعبة، ولا تقبل الخشونة، والعنف والإساءة، والتسلل والغِش.. وتُعاقِب على الأخطاء بالضربات الحرّة وضربات الجزاء، والطرد، والغرامات الماليّة، إلخ.
وممّا استَوقفني بشكل خاص في كرة القدم تراجع الفرديّة والأنانيّة لصالح العمل الجماعي وتكامل الجهود داخل الفريق، وتراجع المحسوبية في اختيار اللاّعبين، وردّ الاعتبار لقِيّم الكفاءة والقدرة والجاهِزِيّة، والبحث المستَمر عن القدرات والطاقات البديلة في عمليّة تجديد دائمة تجعل إبعادَ لاعبين سابقين واكتتاب لاعبين غيرهم أمرا عادِيّا. لا ضَيرَ في عزل نجم من نجوم كرة القدم أو إخراجه أثناء مباراة واستبداله.
ولهذه الأسباب، فإني أتطلّع إلى اليوم الذي أرى فيه الموريتانيّين يُمارسون السياسة بروح وعقلية كرة القدم، مُستفيدينَ ممّا تقدّمه هذه اللعبة من دروس حتى يتأكّدوا جميعا من أنّ الدّولة والأحزاب والمنظّمات، لا يمكن أنْ تلعبَ دورها من خلال الشخصنة والاستحواذ، والادّعاء بامتلاك الحقيقة، وتقديس الفرد، وتقريب أهل الثّقة، وإقصاء أهل الخبرة؛ كما لا يُمكنها أن تتقدّم وتتطوّر دون ردّ الاعتبار لقيّم المراقبة، والمساءلة، والاستقامة.
ولهذه الأسباب، أدعوكم جميعا لمتابعة مباريات كرة القدم بعُمق، وتأمّل، وتمعّن... وانتَبِهوا جيدا لتداوُل الكرة بين اللاعبين، وتداوُل التّتْويج، وتساوي الفرص بين المتنافسين، واحترام قواعد اللعبة برشاقة، ونبذ العنف والفرديّة والأنانيّة، والتمسك بالعمل الجماعي والتّضامن، و روح الفريق الواحد. وانظروا كيف يؤدّي الحكم دوره، و المدرّب، والجمهور، والصحفِيّون... وسَوف تعلمون لماذا أدعوكم لمتابعة "المونديال"..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق