لم يكن شخصا عاديا، كان عنوانا لمرحة حساسة من تاريخ البلد، وقائدا لجيل اتسم برفض الظلم والوضوح في الموقف، وأصر علي الاستقلالية في القرار لأكثر من أربعة عقود، مؤمنا بذاته ومحيطه ورفاقه، مدركا قيمة أصوات الناخبين الذين زكوه في انتخابات تنافسية وصفت بالشفافة. فرفض التفريط فيها مهما كانت التكلفة، وأصر علي البقاء ضمن نظام ديمقراطي أو مغادرة الحكم وأشكال نظمه الصورية.
كان حمود ولد أحمدو - الشاب القادم من دهاليز الإمارة في أبهي معانيها- أحد رواد الجيل المؤسس للدولة الموريتانية، وأحد المنافحين عن حرية التعبير والرأي فيها،مهما كان موقع الشخص من السلطة الحاكمة أو موقفه منها، فكانت تصرفاته مزيجا من الوعي بالذات بعد معايشة لأبرز النظم الديمقراطية في العالم، والإحساس بثقل التاريخ الذي يحمل علي أكتافه، وهو المولود في إمارة مشظوف، بين يدي رمزها الأبرز، والده أحمدو ولد محمد محمود.
النشأة والمسار التاريخي
يقول الباحث الموريتاني سيد أعمر ولد شيخنا إن حمود ولد أحمدو من مواليد 1924م، وهو من أسرة "أهل امحيميد" ذات المكانة التاريخية في الحوض،وقد دخل المدرسة التي خصصها الاستعمار الفرنسي لأبناءالشيوخ سنة 1934 بمدينة تمبدغه، التي عاش فيها ودفن.
دخل المجال السياسي مبكرا، وهو أمر متوقع بفعل المحيط الاجتماعي الذي ولد فيه، والثقافة العصرية التي اكتسبها من سنواتها المحدودة داخل المدرسة الفرنسية، فكان أبرز المرشحين لعضوية المجلس الإقليمي وهو في الثامنة الثلاثين من عمره، وهو الترشح الذي كلله بنجاح ، ليتوجه إلي "سان لويس" حيث كانت بداية مشوار آخر مع الرعيل الأول الذي قاد أول حكومة بموريتانيا، ونافح من أجل توطيد أركان الدولة الحديثة.
نشط ابن الإمارة في الحزب التقدمي، قبل أن يحتل مكانة متقدمة في صفوف حزب التجمع الذي ورثه، وكان عضوا بالحكومة الأولي 1958، بعد اسناد حقيبة الصحة إليه اثر مغادرة محمد المختار ولد أباه والدي ولد سيدي بابه المفاجئة إلي المغرب.
عاد ولد أحمدو إلي قواعده الشعبية مرة أخري مقدما نفسه لمنصب نائب عن مقاطعة تمبدغه سنة 1959 وهو ماتم بالفعل بعد أن أختاره الناخبون إلي جانب ابن عمه الشيخ محمد الأمين ولد سيد امحمد لتمثيل المقاطعة.
صدام من أجل البلد
شكلت سنة 1960 بداية التوتر في العلاقة بين النائب البرلمانير حمود ولد أحمدو وأبرز رفاقه، بعد أن قرر الرئيس الراحل المختار ولد داداه عليه رحمة الله تعديل الدستور لتغيير الصبغة السياسية للنظام الجديد، وتحولت موريتانيا من نظام برلماني محض إلي نظام رئاسي تتعزز فيه قبضة الرئيس علي السلطة والحياة السياسية عامة، خصوصا بعد الدفع بقانون الحزب الواحد، ومصادرة كافة الأحزاب السياسية التي كانت قائمة قبل الاستقلال أو في السنة الأولي له.
لم يستوعب رئيس الجمعية الوطنية سيدي المختار ولد يحي أنجاي الخطوة، أو لم يستطع التكيف معها، فقرر الاستقالة في مارس 1961 تاركا المجال أمام القوي الرافضة لموقف الرئيس من أجل تدبير أمورها السياسية، وبحث آليات العمل المتاحة من أجل مقاومة النزعة الجديدة لدى بعض دوائر السلطة، وهي نزعة كانت طاغية في الجوار الإفريقي عموما.
قرر رموز الحراك المقاوم أو أبناء النخبة التقليدية ترشيح حمود ولد أحمدو لقيادة الجمعية الوطنية، مدعوما من طرف تحالف قوي بقيادة سليمان ولد الشيخ سيديا، وشيخنا ولد محمد لغظف.
رفض البرلمان بعض القرارات الأحادية للرئيس، وتطورت الأمور إلي عصيان برلماني قاده حمود ولد أحمدو ورفاقه داخل الجمعية الوطنية، وأسند من داخل الحكومة الموريتانية، قبل أن يقرر الرئيس الراحل المختار ولد داداه محاصرة الجمعية الوطنية بقوات من الدرك لفرض استقالة النواب أو العدول عن مناهضة الحزب الحاكم الذي بات المظلة السياسية الوحيدة في البلاد، بعد قبول بوياقي ولد عابدين وأحمد باب ول أحمد مسكه بحل النهضة والدخول في حزب الشعب والحكومة بعدد مسيرة طويلة من التفاوض وراء أسوار السجن بولاية تكانت.
نحو مرحلة جديدة
يروي الباحث الموريتاني سيد أعمر ولد شيخنا في كتابه "من أعلام ومشاهير خمسينية الاستقلال" كيف تصرف حمود ولد أحمدو في مواجهة السلطة، وينقل كلماته القوية التي سجلها في خطاب أمام النواب المجتمعين في الجمعية الوطنية تحت حراب القوات المسلحة، بعد إصرارهم علي رفض الخنوع للنظام السياسي أو القبول بسياسة الحزب الواحد.
في الرابع عشر من نوفمبر 1963 جمع رئيس الجمعية الوطنية حمود ولد أحمدو رفاقه، وألقي خطابه الشهير الذي يقول فيه "إنكم وحدكم الممثلون لسيادة الشعب حينما لايتم التعبير عنها مباشرة، إنني لست خصما للأحزاب السياسية،لكني فضلت دائما أن تكون اختصاصات البرلمان والحكومة ذات طبيعة متميزة عن الأحزاب السياسية،فالحزب لايمكنه البقاء في البلد إلا إذا احترم القواعد الديمقراطية التي تغذي مؤسساتنا،وكان مقادا من طرف أشخاص منتخبين شرعيا،وكان محترما للحقائق الجغرافية والاجتماعية والاثنية التي تشكل مجتمعنا"
حقائق يبدو أن النظام القائم قرر ضرب الحائط بها، فقرر ولد أحمدو الاستقالة علنا، مما أغضب الرئيس وبعض كبار مساعديه، وفك العلاقة التي نسجها الرجلان علي مدى أكثر من خمسة عشر سنة من العمل، وثلاث سنوات من الكدح لتوطيد أركان الدولة الوليدة.
كانت استقالة حمود بمثابة الزلزال السياسي الذي هز الحكومة والبرلمان، ودفع إلي تعديل وزاري وانتخابات جديدة، مع محاولة لتجديد جزئي بالحزب الحاكم بغية تصفية العناصر المحسوبة عليه، وهو ما سقط في أول اختيار حينما قررت أغلب القوي الناخبة بالحوض الشرقي إعادة جناحه السياسي إلي الحزب بقوة الصندوق، مما أثار الرئيس ودفعه إلي إلغاء نتيجة الانتخاب لاحقا.
كان ارتداد القرار مدوية، لقد قرر الزعيم التاريخي لحزب النهضة بوياقي ولد عابدين الاستقالة من الحكومة، ومعه غادر الدي ولد ابراهيم هو الآخر،وبدت صورة المشهد الداخلي مرتبكة بفعل انشطار النواة المؤسسة للدولة الموريتانية ولما تكمل عامها الرابع.
معارض عنيد
قرر ابن الإماراة المدلل، وأحد رموز الدولة العميقة، وأشهر المؤسسين بعد المختار عليه رحمة الله التحول من عمق السلطة إلي واجهة المعارضة السياسية غير الحركية، رافضا التقارب مع النظام الذي اعتبره مسؤولا عن تقويض الحريات العامة، والدفع بالبلاد نحو أتون حرب مدمرة هي حرب الصحراء.
ومع اشتداد الأزمة السياسية قرر الرجل بالتحالف مع آخرين مساندة الضباط الذين أنهوا حكم الرئيس الراحل المختار ولد داداه في انقلاب عسكري يحظي بمباركة شعبية، ودعم سياسي كبير.
لم يعد ولد أحمدو للسلطة لكنه ظل علي علاقة بأركانها، مكتفيا بمكانته السياسية والاجتماعية والحظوة التي يمتاز بها عن بقية أقرانه لدي مجمل الضباط الذين شاركوا في انقلاب العاشر من يوليو.
ويري صاحب الكتاب (من أعلام ومشاهير خمسينية الاستقلال) أن مواقف الرجل الرافضة لإعدام ابن عمه الضابط ابراهيم ولد أمحيميد كان أبرز سبب -بعد لطف الله عز وجل- صان حياة الضابط الذي شارك إلي جانب كوماندوز 16 مارس العائد من المغرب للإطاحة بالرئيس العسكري ساعتها محمد خونه ولد هيداله
مع انقلاب 1994 ظهرت خلافات قوية بين حمود ولد أحمدو ومعاوية ولد الطايع، إذ رأي الأول في نظام الأخير نكسة للقيم السياسية وإفسادا لأخلاق المجتمع، وسعي الأخير لتهميش الرجل لدرجة الإقصاء السياسي من الحياة الحزبية، مستعينا بأطراف داخلية لتمرير مخططه.
ظل ولد أحمدو وفيا لأفكاره أكثر من 20 سنة إلي أن سقط حكم العقيد معاوية ولد الطايع وهو له من المعارضين، وفي السادس من ابريل 2009 فارق الحياة بنواكشوط بعد عمر حافل بالعطاء والتضحية والصبر، معطيا نموذجا نادرا في الوضوح في الرؤية والجرأة في اتخاذ المواقف والتعبير عما يدور بنفسه دن رتوش.
زهرة شنقيط
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق