تابعت كغيري من المهتمين بشأننا العربي المقلق، كلمة مندوب دولة قطر إلى اجتماع مجلس الجامعة العربية في القاهرة؛ وقد أصبت بالذهول حقا لاستدعاء سعادته لمفردات ومسلكيات كنا نتمنى أن يتجاوزها الخطاب السياسي العربي تحت مظلة الجامعة، وأمام أنظار الرأي العام العربي والدولي، فتوزيع التهم وتسطيح لغة الخطاب كانا باديين، لكن الأكثر هولا منهما كان ذلك الخلط الإستراتيجي واللاسياسي بل الطفولي الذي بدا الغريق القطري يتشبث به “إيران الشريفة”، إنه مسلك جديد في الإخلال بتعريف الشرف.
من يلاحظ السياسة الخارجية القطرية اليوم يستشف مدى حكمة المقولة الشعبية السارية “من حفر جبا لأخيه وقع فيه”، لقد بنت هذه الدولة سلوكها الخارجي منذ عقدين كاملين على الحفر وتفخيخها، وليس ذلك إلا ضد أمتها.
لقد ذهبت السياسة الخارجية لهذا القُطر الصغير الثمل بالثروة والوهم، كل مذهب في محاولة الخروج على الإكراهات والحقائق الديموغرافية والجيوبولتيكية للأسف الشديد، متجاهلة مبدأ واقعيا هاما هو “التفاوت بين الدول” وهو تفاوت لا يتعلق فقط بالأحجام، بقدر ما يتعلق بعوامل الفعل وبالرؤية والقوة الحقيقية لا المتوهمة.
توهمت قطر بل ونجحت إلى قدر كبير في توظيف إمكانات مادية كبيرة وقطاعات أيديولوجية معينة لزرع رؤيتها غير المبررة موضوعيا والتي تتلفع بثوب زور مثلته مقولة دعم الإصلاح في العالم العربي.
وقد انساق الكثير من النخبة العربية تحت بريق المال والدعاية الإعلامية الخادعة، ليفيق الجميع على حصاد الريح والقلاقل في الوطن العربي، الذي أرادت قطر تجاهل دوله المركزية المؤثرة منذ نشأته إلى اليوم.
حيث تجاهلت تاريخا من الزعامة العربية ومن النضال الوطني والقومي ومن إدارة الصراع بين الأمة وأعدائها، وتاريخا من الإنتاج الفكري والثقافي، قبل أن تكون هي شيئا مذكورا في السياسة. كل هذه العوامل المادية والموضوعية، أرادت قطر بجرة قلم وببرامج للثرثرة وبمفكرين تحت الطلب أن تلغيها.
لقد كان صبر الأشقاء الأكبر على قطر وتوجيه النصح لها، وحتى معاتبتها على المستوى الدبلوماسي البيني، وأخذ العهود والمواثيق عليها بضرورة مراجعة سياستها، وتراجعها عن سوق نفسها والمنطقة إلى خيارات المواجهة والفناء، كافيا لقطر لو أرادت مصلحتها الوطنية ومصالح أشقائها العرب. غير أن قطر بدت وكأنها إزاء جاذبية أقوى منها تدفعها في طريق لا رجعة منه.
واليوم يتفرج العالم على سذاجة وعدم تعقل للواقع لا حدود لهما، فقد فكر من فكر لقطر وأوهمها أن عسكرة مساحتها الصغيرة، بقوات من العالم ومن دول تمثل خصوما تاريخيين وواقعيين للعرب ورفع التبادلات معها؛ وبأن توزيع الإتاوات يمنة ويسرة وتمويل حملات العلاقات العامة، التي يسيل لها لعاب شركات الدعاية والإعلام في الغرب ستجدي نفعا. وغفلوا أو تغافلوا عن أهمية فهم الواقع وإدراكه بشكل صحيح.
وأول ما يجب عقله من قطر، هو مدى محدوديتها وعجزها عن الاستمرار في لعب دور لا يمكن أن تلبسه.
الأمر الثاني؛ أن لغة المصالح لن تسعفها أمام المصالح السياسية والإستراتيجية الكبيرة بين العالم الخارجي ودول المقاطعة لها، لا مجال للمقارنة فالحقائق هنا عنيدة جدا، من يدرك ثقل هذه الدول في السياسة الإقليمية والدولية والمتاح أمامها يعرف أنه خاسر أمامها في لعبة المصالح، وعلى قطر ألا تغتر بالتصريحات المعسولة من أفواه القادة الغربيين ولا من المستأجرين من مثقفي الغرب.
فالغرب لا يمكن التعويل عليه في هذه الوضعية قطعا؛ وقصارى ما تطمح له بعض دوائر النفوذ الخارجي هو استدامة هذه الأزمة لزيادة ابتزاز قطر، وتوظيفها لخدمة أغراضها التدميرية تجاه المنطقة، وينطبق هذا على الموقف الإيراني المساند في العلن.
الأمر الثالث يكمن في أهمية العدول إلى خطاب تصالحي يضرب حسابا لمخاوف وتطلعات الأشقاء المقاطعين لقطر، وأن يكون خطابا حقيقيا منسجما مع الفعل، لأن الامتحان الذي يواجه قطر اليوم هو المصداقية.
الأمر الرابع أن تنتهج قطر منهجية لجبر الضرر وأوله كف الأذى الإعلامي والأيديولوجي السطحي، الذي خرب عقول الجمهور العربي وشغله بالتوافه، وجرأه على المغامرة بأمن واستقرار ومستقبل بلدانه، وجعل ثقافة التخوين والشقاق والكيدية هي المسيطرة للأسف الشديد.
بهذا وحده يمكن لقطر أن تراهن على العودة مرحبا بها، إلى حضنها الخليجي والعربي والذي يصر أكثر من أي وقت مضى- فيما يبدو- على أن يقبض على يد التخريب التي تستغل قطر ضد أمتها.
دبلوماسي موريتاني سابق
السعد بن عبدالله بن بيه
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق