الأربعاء، 30 أغسطس 2023

حديث الأربعاء (محمد فال ولد بلال)

 





* إمام قرية "الدافوع" (Dafort) 

1980، حاكم مقاطعة "ولد اعلِ بابِي"

وصلني تعميم سري من وزارة الداخلية يأمر السلطات الإدارية بتوزيع استمارة على القضاة والعلماء، واستبيان مفصل حول العبودية في بلادنا: أصولها، وأشكال ممارستها، والموقف الشرعي منها. والمطلوب من السلطات الإدارية ليس فقط استقصاء أو استطلاع رأي العلماء، بل استصدار فتاوي مكتوبة وموَقعة حول فرضية تحرير العبيد. وهي الاستشارة الوطنية التي مهدت وهيأت للقانون الصادر عام 1981 بهذا الخصوص.

حرصت على أن أقوم بالمهمة على أكمل وجه. قمت بإحصاء دقيق لجميع علماء المنطقة، ولم يبق عالم إلا وزرته مباشرة في بيته، مع اهتمام خاص بالعلماء "الصوانك" باعتبارهم الأكثر عددا. وكان الأمر سهلا لأن العلماء في المجتمع "الصوننكي" كانوا - في ذلك العهد - ينتسبون في أغلبيتهم الساحقة لأسر معروفة، هي أسر "سيسي"، و "ادرامي"، و"سوخنا"، و"دياخيتي"، وأسماء قليلة أخرى.. جمعت كل الفتاوي والردود التي حصلت عليها، وحولت الملف بالسرية القصوى لوزارة الداخلية. ولن أتحدث هنا عن مضمون الفتاوي و أسماء أصحابها حفاظا على سر المهنة. ما أستطيع قوله هو أنني فوجئت بتمكن العلماء "الصوانك" من ناصية اللغة العربية، وخبرتهم بأصولها وفروعها وبيانها، إلخ..

وأخص بالذكر أحد علماء المنطقة ظل أسمه محفورا في ذاكرتي. هو فضيلة الإمام "سيسي (Cissé)"، إمام قرية "الدافوع" التابعة إداريا لمقاطعة "ولد ينجَ"• قرر الوالي إرسال وفد برئاسة ابراهيم ولد بوبكر (مساعد الوالي)، وعبد الله اديالُّو (حاكم ولد ينج)، وخادمكم هذا (حاكم ولد اعل بابِي) لمقابلة الإمام "سيسي"، وهو من أكثر أئمة المنطقة علما ومصداقية. وصلنا منزله، و وجدناه في انتظارنا محاطا بأعيان القرية ("آل كامارا"). وبعد التحية، قادنا بنفسه إلى داخل بيته. وهو بيت مثل غيره من بيوت "النبلاء" في المجتمع "الصوننكي" يحتوي على صومعة لتخزين فائض الحصاد الزراعي، و"صحون" لحفظ السنبلات والحبوب والمنتجات الأخرى، مثل "آدلگان"، و"گرتَه"...ومساكن الزوجات والأولاد، وأكواخ للعشب، والخشب، والمطبخ، والخيول، الخ...

وفي داخل الشرفة المعَدة لاستقبالنا توجد عشرات الكتب مرتبة بشكل أنيق. وما إن جلسنا حتى جاؤوا كالعادة بشاة (معز) يسحبونها سحبا حتى أوقفوها بين يدي الوفد استئذانا في ذبحها …ومع انتهاء هذه الشعيرة - القديمة قِدم الزمان -  بدأ الاجتماع. قلنا للشيخ: جئنا بأمر من الوالي لاستلام جوابك على الرسالة الموجهة إليك وإلى علماء وقضاة البلد من قِبل الحكومة. وشرحنا له حيثيات الموضوع. استمع إلينا باهتمام، وقال: "ما دامت الدولة طلبت الرأي من الجميع، فإن الواحد يكفي عن الآخرين. هذا فرض كفاية وليس فرض عين". و رفض بأدب وهدوء إصدار أي جواب حول الموضوع. لقيته على انفراد، وبذلت ما بوسعي برجاء أن أنتزع منه موقفا، أو إشارة "مع" أو "ضد"، ولكنه ظل صامتا حتى أغلق الملف.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق