الأربعاء، 9 أغسطس 2023

في الذاكرة(محمد فال ولد بلال)

 



الزمان : نوفمبر 2009 

المكان :"الريتز" - الدوحة

حضرت حفل عشاء منظم من قبل شالسلك الدبلوماسي لتوديع عدد من السفراء بعد انتهاء مهمتهم في دولة قطر. كان الجو مبهجًا. كله حفاوة وصداقة واحتفال. وتضمن البرنامج عروضا فنية متميزة أداها بعض المطربين اللامعين، أذكر منهم على ما اعتقد المطرب القطري الكبير علي عبد الستار.

جلست بجنبي على نفس الطاولة سيدة مسنة تتلعثم بصعوبة في خليط من الدارجة المصرية والإنجليزية. ألقت السلام وقدمت نفسها على أنها قائمة بالأعمال في سفارة الولايات المتحدة الأمريكية. رددت السلام، وعرفتها على نفسي، سفير موريتانيا في قطر. تبسمت وأعربت عن سرورها باللقاء. وبدا بمبسمها التقدير والاهتمام. 

استهلت حديثها بالتعبير عن إعجابها ببلدنا وشعبه الكريم. واسترسلت في الكلام، وقالت:

"زرت بلدكم قبل 3 سنوات رفقة زوجي في رحلة سياحية لا تنسى. و تأثرنا جدا بحقول قصب السكر الممتدة على مد البصر والمناظر الطبيعية الجميلة وتنوع الساكنة وتعدد اللغات. وانبهرنا بجمال الأرض وأهلها، خاصة عندما تجولنا مشيا على الأقدام وسافرنا بالسيارة بين المدن والقرى الجميلة المتوهجة".

قلت في نفسي:

"ربما تكون السيدة قد زارت ضفة النهر في موسم خريف ناعم، وتراءت على مد بصرها مزارع الأرز والمساحات الخضراء، ولعل مشروع قصب السكر الذي وعدت به الحكومة رأى النور. لا أدري، شخصيا لم أزر المنطقة منذ زمان".

ساورني الشك، ولكني آثرت الصمت. واصلت السيدة سردها، وقالت إنها ممتنة لشعبنا، وذكرت أن الأميرة سُكيْنه بنت الشيخ غلام علي - سلطان مكة وإمام الأقصى - هي التي أهدت للسيد "جون آدام"، الرئيس الثاني في تاريخ الولايات المتحدة الاميركية، 3 زرافى (🦒) لإثراء وتجميل حديقة حيوانات البيت الأبيض. قلت إن هذه الأسماء موريتانية دون شك. قد يكون الشيخ المذكور حج بيت الله الحرام وزار المسجد الأقصى. من يدري؟ أسررت هذا في نفسي، ولم أعلق، بل أومأت برأسي من أعلى إلى أسفل تعبيرا عن الموافقة والإعجاب. 

واصلت السيدة حديثها، وقالت: "إننا نتقاسم معكم قيم الحرية والعدالة واحترام حقوق الانسان". وأنهت كلامها بتمجيد نظامنا السياسي واصفة إياه بالنموذجي والمثالي في الديمقراطية والحكم الرشيد على مستوى القارة الأفريقية (؟) … "أح اصّ"! عندئذ أيقنت أنها تتحدث عن بلد آخر غير  بلدنا، ولكني تعاملت مع الموقف بما تقتضيه اللباقة الدبلوماسية والكياسة. وتجاهلت غلطها عمدا.

رفعت كأسي مهنئا ومعبرا عن شكري وامتناني لهذا الاطراء الجميل. ثم دخلنا وبقية الزملاء في حديث آخر لمدة ساعة كاملة.

وبعد انتهاء العشاء، قالت وهي تودعني: "سررت جدا بالتعرف على سعادتكم، وأتمنى أن ألقاكم في عاصمتكم الجميلة "بورث  لويس". (على فكرة، "بورث لويس" هي عاصمة جزيرة موريس).

ذهلت بالطبع، لكنني لم أعبس، ولم أبد أدنى مفاجأة. سألتها فقط عن أسم الأميرة التي أهدت الزرافي للرئيس الأمريكي، فقالت بالتفصيل: "ساكينة بيبي الشيخ گلام علي"، سلطان منطقة "موكا".

أدركت في الحال أننا وقعنا في فخ حوار طرشان. قلت لها " سفير موريتانيا" فسمعت "سفير موريشيوس". وهو غلط غالبا ما يقع فيه متحدثو اللغة الانجليزية. وقالت "ساكينة بيبي الشيخ گلام علي" فسمعتها "سُكينه بنت الشيخ غلام علي". وقالت سلطان "موكا" فسمعتها سلطان "مكة".

قلت لها: صاحبة السعادة، أتمنى أن أجد فرصة مماثلة لنواصل حديثنا في نواكشوط، عاصمة مو - ري - تا - نيا بلدي الجميل، وهو أيضا بلد صديق للولايات المتحدة الأمريكية، يجمع بين رمال الصحراء الذهبية، ومساحات النهر الخضراء، ومياه المحيط، والشواطئ الملساء، ومرتفعات الجبال، و به تنوع لغوي رائع، وديمقراطية ناشئة تنمو وتكبر .. بلدي "موريتانيا".

حارت السيدة وارتبكت، و قالت في اندهاش واستغراب: سعادة السفير، أرجوكم العفو والمسامحة والستر. تفضلوا بقبول اعتذاري وتقديري لكم ولبلدكم. أتمنى أن نلتقي بكل سرور للحديث عن موريتانيا.

وانتهى اللقاء.

بعد ذلك بأيام، لقيت سفير موريشيوس، صديقي و زميلي "ديلما حمد" في باحة فندق فورسيونز . وسألته عن الشيخ "غلام علي" وابنته "سُكينة"، و"مكة"، و"الأقصى"؟ قال: سُكينة بنت الشيخ غلام علي، شخصية تاريخية كبيرة، و محل تقدير واعتبار عند مواطني"موريشيوس" بمختلف أديانهم وألوانهم. عاشت 113 سنة (القرن 18- 19) كلها تعبُّد واعتكاف. و والدها "الشيخ غلام علي" شيخ صوفي قادري جليل، هو باني و مؤسس أول مسجد في البلد، وأطلقَ عليه اسم "الأقصى" في منطقة "موكا". و هذا المسجد مسجل الآن ضمن التراث الوطني "الموريسي" وجزء من مقدسات الشعب. يضم أضرحة "الشيخ غلام علي" وابنته "سُكينة". وتتولى وزارة الثقافة ترميمه والحفاظ عليه. وهو مزار عظيم لا يطويه النسيان عند مسلمي جنوب القارة الأفريقية والهند وعموم شرق آسيا. كما يعتبر وجهة مفضلة لدى الكثير من السياح. 

* تنويه

تذكرت هذه القصة حينَ وصلني خبر إصابة سفينة "الغاز"  بخلل فني قبالة "موريشيوس"(financialafrik).

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق