أثارت صورة تداولها بعض النشطاء على مواقع التواصل الاجتماعي لما يظهر أنه زواج قاصر لغطا صاخبا وضجيجا طاغيا بين من يعتبر الأمر جريمة نكراء وداهية عظمى وأنه الرزية كل الرزية.. بينما ذهب آخرون إلى اعتبار الأمر قرار شخصيا وأمرا شرعيا .لايمكن إنكاره أوالاعتراض عليه وقد جرى العمل به وأبدى نجاعته وسلامته.
وفي هذا السياق أسجل ملاحظتين:
الأولى : أن توزيع تلك الصور ونشرها غير مقبول لأنه من انتهاك خصوصيات الأشخاص المحفوظة شرعا وقانونا فبالتأكيد لم تكن تلك الطفلة ولا من يبدو أنه زوجها يريدان لتلك الصورة الخاصة أن تكون مادة للغير ينشرها استهجانا أو استحسانا دون ضوابط معينة ودون مراعاة للخصوصية.. سيما وأنها ذات بعد خاص جدا..والذين نشروها لو كانت تلك الصورة لأخت أو قريبة أو زوجة لما رضوا بنشرها ولأحسوا بحرج شديد وهم يشاهدونها مادة حية على وسائل التواصل الاجتماعي في مجتمع مازالت فيه "بقية أخلاق" رغم ما يشوبها من دخن..فكان من المفترض الاكتفاء بالحديث عن الظاهرة أو تغيير الملامح قبل نشر الصورة احتراما لخصوصيتها ..وكلنا يعلم أنها ليست حالة شاذة في مجتمعنا فبالتأكيد هناك عشرات من أترابها ربما عقد قرانهن في نفس اللحظة دون ضجيج أو صخب لأنه لم تتسرب صور من ذلك الزفاف إلى فضاء التواصل الاجتماعي..فينبغي إعادة النظر قبل نشر الصور الخاصة خاصة صور القاصرات فهي ليست مفقودة أو مريضة تنشد مساعدة حتى يتطلب الأمر نشر صورتها بموافقتها واختيار صورة مناسبة ..
أما الظاهرة في حد ذاتها فنقاشها يظل واردا ..صحيح أنه من الواجب شرعا على من يؤمن برسالة النبي صلى الله عليه وسلم أن يتئد قبل إطلاق العنان للسانه ثلما وثلبا للظاهرة عبر مسارها التاريخي مجردة عن أي سياق أو تخصيص.. فقد ثبت في الصحيحين أن أمنا عائشة رضي الله عنها قالت"تزوجني النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا بِنْتُ سِتِّ سِنِينَ" إلى أن قالت " فَأَسْلَمَتْنِي إِلَيْهِ وَأَنَا يَوْمَئِذٍ بِنْتُ تِسْعِ سِنِينَ"وهذا الاتفاق بين الشيخين يعطي الحديث عند أهل الاختصاص أعلى درجات الصحة، وقد حاول بعض الباحثين التشكيك في هذه الرواية بشبهات رد عليها أهل العلم في مظانها وأشبعوها بحثا ودراسة ..ولم يتمكن أولئك من الطعن في الحديث المذكور بالطرق العلمية المعروفة في ذلك العلم كما أنهم-وهذا مربط الفرس في الموضوع- تعاملوا مع القصة انطلاقا من واقعهم الذي يعيشون وتأسيسا على مفردات الخطاب الذي يناسب عصرهم وهذه هنة في التعاطي مع مثل هذه الأمور..فمحاكمة زمن ما بمعطيات زمن آخر ومتطلباته عادة ما تخرم الصورة الحقيقة وتشوهها..فقد يناسب عصرا مالا يناسب عصرا آخرا وقد يشيع في زمن ما لايناسب زمنا آخر..وتلك سنة الله في الحياة الدنيا.
فلم يرد في الشرع أن النبي صلى الله عليه وسلم أوجب تزويج القاصرات مطلقا لابفعله هو له صلى الله عليه وسلم ولا بأي خبر صحيح مروي عنه صلى الله عليه وسلم كما لم يرد نص في تحريم تزويجهن لهذه العلة فقط . ومن ثم فالأمر يندرج في سياق الجواز الذي يمتلك فيه الشخص الحرية بين الفعل وعدمه ..وقد يصلح في هذا الإطار في بيئة مالايصلح لغيرها وقد يصلح في زمان مالايصلح لغيره فليس من المناسب إجبار الناس عليه في كل الظروف ولا تحريمه في كل الظروف بل تقدر النوازل بقدرها فيفرط من يعتبره إلزاميا دون النظر لأي اعتبار ويفرط من ينظر إليه من زاوية "ظروفه" فيعمم ويحاكم التاريخ.. فلا ذاك راعى اعتبارات اللحظة ولا هذا راعى اعتبارات "الأمس"
ومادام الأمر في إطار الجواز فللقائمين على الشأن العام والمتخصصين الكلمة الفصل في الموضوع..والعمدة في ذلك على ما يحقق المصلحة ويصرف المفسدة..
وإذا كانت الدراسات العلمية والتجارب في هذا المجال قد أثبتت أن تزويج القاصرات في هذا الزمن يشكل خطرا عليهن وعلى صحتهن فمن الوارد جدا تقننين الموضوع وفق الضوابط العلمية المناسبة المتفق عليها بين المتخصصين وأولي الأمر وتبقى الاستثناءات أمرا واردا ..
ومن يدري.. فقد تكون القاصر التي تتزوج يتيمة أو مشردة تعيش الأمرين أولا تجد ما يسد قوتها ولا ما يكنها فهي أمام خيارين إما أن تنحرف عن الجادة وتسلك منعرجات شيطانية أو تبحث عن مستقر مناسب وليس أمامها وأمام ذويها سوى عش الزوجية.. اللهم إلا إذا كانت هناك جهات سترعاها وتوفر لها الظروف الكريمة حتى تنضج وتكبر..
لنكن صرحاء وصادقين مع أنفسنا..كثيرون يلهثون خلف شعارات"غربية" توفر دولها كل أسباب الحياة الكريمة لمواطنيها وتعينهم على نوائب الدهر مما قد يساعد في تقبل مثل هذه الأمور بينما في بلادنا ليست هناك أي معونات أو ضمانات صحية مما يجعل البدائل محدودة أمام بعض الأسر وبعض الفتيات..وفي نهاية المطاف يظل المدار في كل ذلك على ما يراعي المصلحة..فمن أمهات قواعد الشرع الإسلامي لاضرر ولا ضرار.. والضرار يزال
أحمد أبو المعالي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق