الأربعاء، 8 أغسطس 2018

بدي ابنو : المؤسسة العسكرية الموريتانية عرفتْ وجودها أساسا كنتيجة لمغامرة حرب الصحراء

 صورة ملف ‏‎Beddy Ebnou‎‏ الشخصي ، ‏ربما تحتوي الصورة على: ‏‏‏‎Beddy Ebnou‎‏‏، و‏‏‏بدلة‏ و‏لقطة قريبة‏‏‏‏‏
تُـمثّلُ المؤسسة العسكرية في صيغتها التي استولتْ على السلطة سنة 78 صورةً كاريكاتيرية مُركَّزةً للطبقة الكومبرادورية. فقد شكلتْ في مهبطها ـ رغم وجود عناصر ذات تكوين متميز في صفوفها ـ نواة مؤسسية هامشية تكونتْ بمعزل عن الحركة المدنية الوليدة حيث لم تستطع في بداياتها أن تستقطب نشطاء الفضاء المدني الناشئ.
مثلتْ إذن حربُ الصحراء بمعنى ما إعلانا عن الميلاد الفعلي للمؤسسة العسكرية. فانتقلتْ في ظرف السنوات الثلاث من نواة هامشية إلى مؤسسة ظلت تتضخم وتستولى على جل اهتمام النظام إلى أن انقلبت واستولت عليه. وكان استيلاؤها على النظام كما رأينا سابقا استيلاء على الدولة ومؤسساتها بكاملها، أي أنه كان استيلاء على النظام - الدولة. كان استتباعا كليا لمختلف مؤسسات الدولة الأخرى.
والمؤسسة العسكرية من حيث هي عسكرية كما من حيث نسقها وبنيتها الحديثان المستوردان تبدو الأكثر تنظيما وحداثة في الشكل. ولكنها من حيث المضمون هي تزامنيا المؤسسة الأكثر انغراسا في الانتماءات التقليدية وعداء للفضاء المدني الوليد. لا يتعلق الأمر ضرورة بأسباب إيديولوجية أو بقناعات واعية لعناصرها القيادية أو النافذة بمستوى أو بآخر ولكن يتعلق أساسا بأسباب تاريخية ميلاداً وتشكّلا وتكوينا. فالمؤسسة العسكرية في صورتها التي استولت على السلطة تتضارب مع وجود هوامش مدنية. فهي تكريس لمسلسل متضارب مع ترعرع الفضاء المدني وترتكز "مشروعيتها" على ثنائية الشكل الخارجي والمحتوي التقليدي كنقيض كلي لمنح التمدين محتوى مدنيا.
نعم لقد عرفت المؤسسة العسكرية وجودها الفعلي متأخرة نسبيا عن المؤسسة التربوية. عرفتْ وجودها أساسا كنتيجة لمغامرة حرب الصحراء. ولكنها ظهرتْ مفارقيا الأكثر وفاء للإرث السينولوي إذْ أنها تكشّفتْ التعبير الأكثر امتيازا عن التدجين المزدوج الذي طرفاه الخارج والماضي أو الدولة الفوقية والمجتمع التقليدي.
الشكل الحداثي المستورد والمحتوي التقليدي المترهل يأخذان الصيغة الأكثر تعبيرا في استيلاء لجنة الإنقاذـ الخلاص على السلطة. ومن هنا كانت الانقلابات أو أشباه الانقلابات التالية صراعا داخل مجموعة نفسها لم تكن إلا صراعا بين نفس المجموعة ونفس اللجنة وباسم نفس الشعارات الخلاصية الإنقاذية ولكنها كانت في أغلب مستوياتها تعبيرا عن صراع المرجعيات والانتماءات الماقبل وطنية نصف المنطوقة أو المعبر عنها جزئيا بأشكال تواصل لا رسمية بدتْ حينها هي الأكثر تداولا والأكثر فاعلية أمام التحولات والتشكلات الاجتماعية المحايثة.
لنتذكر هنا عاملين مساعدين كانت لهما فاعلية بديهية.
أولهما أن الفترة التي عرفتْ اندلاعَ حرب الصحراء شهدتْ ظاهرةً لم تكن لتقل أهمية عن الحرب وهي ظاهرة التقري أو التمدين الطفروي بفعل عناصر كثيرة أشهرها عوامل الجفاف والتصحر. وهو ما جعل الدينامية المدنية تتعثر أمام الدينامية التمدينية. فطاقة استيعاب فضاء مدني مترعرع مبني على أنوية مدينية مصطنعة ووليدة كانت أضعف من أن تتحمل انقلابا سكانيا بهذا المستوى. وبالتالي فإن النزوح المتسارع كما عرفتْه السبعينات كان انتصارا للريف والرعوية أكثر مما كان انتصارا للمدينة. فسرعة التمدين أزهقت "أرواح مدن" ما تزال حيواتها رحِمية. أو لنقل بتعبير أوضح إنها أجهضت جزئياً ولادة المدن. المدينة هي التي أصبحت ريفا جديدا أو شبْه بادية جديدة.
لم يحدث انتقال تدريجي وإنما انتقال فجائي طفروي فرض جزئيا معايير المجتمع التقليدي داخل مدينة لم "تتمدن" بعد. لم يقض نهائيا على الهامش المدني ولكنه زاحمه جديا. وهو ما منح ثنائية التدجين المزدوج دفعا إضافيا، فقد عني التحول الكمي تحولا كيفيا (لنتذكر هنا ـ تمثيلا لحجم الظاهرة لا حصرا لها ـ أنه أمام عجز سلطات "الاستقلال" في أوائل مسيرتهم عن تحفيز السكان على التمدين أو التقري في العاصمة نواكشوط فإن الاستشرافات الإحصائية التي وضع الديمغرافيون بداية الستينات كانت تتوقع أن يناهز سكان العاصمة مائة ألف ساكن سنة 1980 وهو الرقم الذي انكشف بعد الطفرة السبعينية أنه لم يمثل إلا أقل من خُمس سكان انواكشوط لنفس السنة ـ 1980). أكثر من ذلك فإن طفرة التمدين التي رمت بآلاف العائلات المعدمة إلى المدينة قد دفعتْ نسبة مرتفعة من ذويهم إلى الانخراط في المؤسسة العسكرية التي عرفتْ حركة تجنيد واسعة طيلة سنوات الحرب. وبالتالي فإن هؤلاء لم يعرفوا الفضاء الخاص بالمدينة إلا عرضا. فقد كان تمدينهم مرادفا لتجنيدهم دون أن يمروا بمرحلة وسيطة. وكان ذلك مما زاد تكريس انغراس المؤسسة العسكرية في المجتمع التقليدي.
أما العامل الثاني فيتمثل في أن المؤسسة العسكرية حين استولت على السلطة لم تكن قد كسبت مشروعية "وطنية" كالمؤسسة التربوية التي وُلدتْ جدليا مع الدولة وكونتْ نخبتها الأولى. فلم تمنح سنوات الحرب الثلاث المؤسسة العسكرية أي مستوى من المشروعية كالذي كانت ستكسبه لو أنه قدر لها مثلا تحقيق انتصارات كبيرة ما أو لو كانت تمكنتْ بشكل لافت من استبقاء تيرس الغربية أو بعض أجزائها. ومن ثم كانت المرجعيات التقليدية المستنفرة ضمنيا أو بشكل صريح مرتكزا معوضا رئيسا. عني ذلك في الخلاصة أن سلاح الجيش كما تأسس وساد رمزيا سلاحان، سلاح الخارج وسلاح القبيلة. وبه ماديا ورمزيا يتصارع الخارج مع الخارج والقبيلة مع القبيلة، وبه يتحالف أو يتقارب الخارج مع القبيلة، عبر نفس المجموعة (اللجنة / اللجان) أو في ظلها، على الصعيدين المادي والرمزي، وبطرق شبه متخفية غالبا وجد مكشوفة أحيانا. ليس غريبا إذن أن يُظهر ويُضمر أغلب عناصر السلطة العسكرية المنبثقة عن العاشر من يوليو وتداعياته اللاحقة عداء شديدا ومترسخا لكل التشكيلات السياسية والنقابية وغيرها من أنوية الفضاء المدني الوليد. كما أنه ليس غريبا في نفس السياق أن يأخذ صراع الفئات الثلاثة الموروثة - كما رأينا سابقا- عن دولة العقدين الستيني والسبعيني وما قبلهما منحى جديدا تكون ضحيته الأولى المؤسسة التربوية والفاعليات المدنية المرتبطة بها.

بدي ولد ابنو

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق