السبت، 5 نوفمبر 2016

الطريق إلى الوحدة الوطنية (ح5)


بعد الحديث السابق عن البنيات التقليدية في المجتمع الموريتاني وما يميّز إيقاعها من توتّر صامت، وأزمة في مرحلة الكمون قابلة للتطور والانفجار في أية لحظة لا قدّر الله، وما يتطلبه المقام من تدخّل عاجل لمحاصرة الداء في مهده، واحتواء سريع لما هو قائم من انحلال في الوحدة وتضارب

 في الوجهة بين المكوّنات الاجتماعية الوطنية، نتطرّق الآن للدواء الذي بدونه لا تبرأ النفوس من أدوائها، ولا يتهيّأ المقام لشفائها، أعني كلام ربّنا العظيم، وحديث رسولنا الكريم عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم.
وَأَنَّ هَذِهِ أُمَّتَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَة:
    من الطبيعي أن تكون قاعدة أيّ بناء يراد له البقاء صلبة ومتماسكة، ليتحقّق له الأمن والاستمرار، وكلّما كان البناء عاليا احتاج إلى أساس أعمق وركائز أقوى، ونحن إذْ نريد لوطننا الموريتاني أن يكون عاليا في بنائه، شامخا مستقرا في قواعده وأركانه، لذلك لزم أن نضع له من الأسس ما يحقّق الهدف المراد، فتشابك السواعد وتعاضد الأفكار وصفاء النيات وتشارك الآمال والأحلام محجّة بيضاء وجسر متين ينقلنا بسلام ويسر إلى برّ الأمان، و لأجل أن يتحقّق الترابط المنشود بين أفراد المجتمع الواحد وفئاته ومكوّناته، لا بدّ أن يكون الاتحادُ ضالّتَنا، فالوحدة دائما رمز القوة وهي الطريق الأمثل إلى النصر، أمّا الفرقة فهي مؤشّر الضعف وطريق الفشل.
     لكنْ ما معنى أن نكون أمة واحدة وأمراضنا الاجتماعية التي تشرذمنا ما زالت تستفحل، ولمّا لمْ يلحْ في الأفق بارق حلّها، فالماضي القبلي والإثني والطبقي ما زال ممسكا بتلابيب حاضرنا، بل ويرسم ما اتّضح من معالم مستقبلنا، والمسافة بين أغنيائنا وفقرائنا في تزايد مستمر، وكيف نكون أمة واحدة ونحن لا نخشى في واقع حياتنا إلا القوي ولا نحتقر إلا الضعيف، نحترم المتسلّط وننبذ المسالم، نبالغ في إهانة اليد التي تخدمنا، وفي التودّد للعين التي ترمقنا شزرا، ما معنى أن نكون أمة واحدة وبعضنا ينهب الآخر ويدوس كرامته، بعضنا متخم حَدَّ الأباطرة بالمال الحرام، والآخر يُسْكِنُه الجوع والألم على حافة القبر؟!
   أيّ وحدة هذه ولا حقّ في هذا الوطن المستباح إلا لقويّ قاهر وماكر محتال وسمسار مراوغ ومنافق مرتزق، و"بارون" يتلهّى من أبراجه العاجية على مأساة درويش يجلده الإحساس بمرارة الواقع وضعف نفسه المنكسرة، وطن تتعالى فيه يوما بعد يوم هيمنة العصبية القبلية المتنفّذة لتسحق ما تولّد من أمل باهت بالخلاص لدى المستضعفين من الشرائح والأعراق وحتى من القبائل نفسها، أيّ وحدة تلك ونحن نسرق خبز الفقير وندوس إنسانية الضعيف ونستغلّ سذاجة البريء.
     إنّ الواجب هو أن يجتمع أبناء الوطن الموريتاني اليوم على كلمة سواء وغاية مرسومة، ويرسّخوا في ما بينهم أسس العدل والمساواة، ليجسّدوا اللحمة التي أرادها الله تعالى في قوله: "وأنّ هذه أمّتكم أمة واحدة وأنا ربّكم فاعبدون"، وتحدّث عنها رسوله الكريم في قوله "مثل المومنين في توادّهم وتراحمهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمّى"، إنّ أمّة الإسلام الحقيقية هي تلك التي تنبذ سبل الفرقة والخلاف، لتكون كالبنيان المرصوص يشدّ بعضه بعضا، ولاسيّما في هذا الزمن الذي تداعت عليها فيه الأمم، كما تداعى الأكلة إلى قصعتها. فالناظر إلى واقع أمتنا العربية والإسلامية الآن يجد أنّها أمة يُكاد لها في أكثر من مكان، في العراق وسوريا وليبيا والسودان والصومال و اليمن وأفغانستان، وقبل ذلك في فلسطين، وهناك من يرمي إلى تجزئتها أكثر وتحطيمها، ونحن في موريتانيا نحمل للأسف من الهشاشة ومن قابلية التشظي ما يفرض علينا قدرا زائدا من إصلاح ذات البين واليقظة حتّى لا نكون البؤرة التالية، ولا سبيل لصدّ العدوان ومواجهة مخطّطات التفرقة، إلاّ بالاتحاد والاعتصام بحبل الله وسنّة النبيّ الكريم وتحقّيق دولة المواطنة على أسس العدل والمساواة بين الجميع.
    لا بدّ أن نأتلف جميعا عربا وزنجا، إيكاون واحراطين، زوايا وامعلمين، تحت مظلة واحدة هي "المواطن الموريتاني المسلم"، كما هو عنوان دولتنا "الجمهورية الإسلامية الموريتانية"، ونتجاوز ما دون ذلك من العصبيات الضيّقة والسبل الفرعية، والتسامحوني على استخدام تلك التسميات، فلو أُعْطى الخيار لما استخدمتها، ولكنّه الواقع الماثل أمامنا جميعا، ومعالجته تقتضي مواجهة بشكل جريء وصريح، والغوص في داخله من أجل تشريحه، واستئصال كلّ "أورامه الخبيثة"،  ولا أظنّ أن التعميم والمثالية الساذجة و"الطل اعل ازغب" يمكن أن يكون علاجا فعّالا لهذا الواقع المزمن والمعقّد، ثمّ إننّي لا أرى المشكلة في التسميات بحدّ ذاتها لو تُرِكَت في حَدِّها الطبيعي ـ وإن كنت لا أحبّذها ولا أرتاح إليها ـ وإنّما المشكلة في ما هو كامن وراء التسميات من شعور بالاستعلاء وتنابز بالألقاب وشحنات متنافرة مركوزة في الذاكرة الجمعية، شحنات الرفع والخفض، والتضخيم والتقزيم، وكدليل على أن العيب ليس في التسميات، فقد عُرِف أقطاب من السلف الصالح بأصولهم كبلال الحبشي وصهيب الرومي وسلمان الفارسي، كما عرف عدد من كبار العلماء بالمهن كابن الجزّار وابن الصبّاغ وابن العطّار وابن الخيّاط، ولكن لم يكن في هذه التسميات ما يدل على الفوقية أو التحتية أو الفخر أو النبذ، لأن الإسلام نزع ما في صدور القوم من غلّ، وأذهب عنهم عِبّية الجاهلية وتفاخرها بالأنساب، لقد اجتمعوا مع إخوتهم العرب تحت راية الإسلام الواحدة، وحلّت عندهم رابطة الدين محلّ الرابطة النسبية، فأبوهم الإسلام لا أب لهم سواه، كما قال شاعرهم.
    إنّ السعي إلى لحمة وطنية حقيقية، يقتضي الترابط بين مسلمي هذا البلد ـ وما فيه إلاّ المسلمون والحمد لله ـ دون اعتبار لجنس أو نسب أو لون، غير أنّ ذلك سيمرّ حتما بالتصالح ابتداء، وإزالة الأشواك ورفع المظالم، فإذا رفعت المظالم تقاربت النفوس وزالت الضغائن، ساعتئذ تتجسّد الأخوة الإسلامية في أبهى حللها، ويقع التماسك وتزول المعوّقات.
   لقد كان القرآن الكريم صريحا في التأكيد على مبدأ الأخوة الدينية ووصفها بأنّها نعمة، قال تعالى: "واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألّف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا"، ولم يقتصر الإسلام على جعل هذا الحب وتلك الأخوة مجرّد عاطفة، بل رتّب عليها طائفة من الحقوق والواجبات يلتزم بها كلّ مسلم ناحية أخيه المسلم، قال صلى الله عليه وسلم: "المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه" وقال: "من فرّج عن مؤمن كربة من كرب الدنيا فرّج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن ستر مسلما ستره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه".
   وعند التمسّك بهذه المعاني والقيم الإسلامية السامية وإنفاذها في واقع الحياة ـ وذاك لعمري هو  لبّ المشكلة فقلّ منّا من لا يحفظ هذه النصوص الدينية ويمرّ عليها مصبحا وبالليل، ولكنّها لا تجد في الأغلب الأعم طريقها إلى التنزيل على الواقع، فنحن نتعاطى مع هذه المبادئ الإسلامية النيّرة عفويا بما ورثناه من سلوك آبائنا، وما استقرّ في أذهاننا من العادات والتقاليد، وليس بما يقتضيه الأمر من العمل الجاد باتجاه فهم وتطبيق روح الإسلام  وجوهره في هذا السياق ـ إذا استطعنا إِذَنْ تفعيل تلك القيم والمعاني الإسلامية النبيلة وتكريسها في واقع حياتنا فسيرتفع مجتمعنا الموريتاني إلى درجة كبيرة من التضامن والتكافل وتوحّد الإحساس، فيعمل كلّ فرد على تفريج ضوائق أخيه وحلّ مشكلاته، ويقف منه موقف العون والمساندة، لا موقف الحقد والشماتة.
     إنّ أول خطوة في هذا الاتجاه، وقد طالب بها الإسلام من قبلُ هي التحلّي بالمواقف الإيجابية إزاء ظاهرة الظلم حينما يظهر بين أفراد المجتمع الواحد، بأن يقوم المسلم بنصرة أخيه إن كان ظالما، بأن يمنعه من الظلم، وإن كان مظلوما بأن يرفع عنه الظلم. وممّا لا شكّ فيه أنّ السخرية والتنابز بالألقاب والاحتقار والغيبة والنميمة وسوء الظن والتجسس، كلّ ذلك من الظلم البيّن الذي حذّر منه الإسلام، والذي يجب أن تتضافر جهود الجميع للتخلّص منه، قال صلى الله عليه وسلّم: "إيّاكم والظن فإنّ الظنّ أكذب الحديث، ولا تجسّسوا ولا تباغضوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخوانا، المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يحقره، بحسب امرئ من الشرّ أن يحقر أخاه المسلم، كلّ المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه".
     ومن الواضح تماما أنّ هدف الإسلام  من تحقيق هذه المبادئ العظيمة هو تكريس مبدأ المساواة بين جميع المسلمين، لأنّ الدين الإسلامي أراد للمجتمع المسلم أن يرتقي إلى أفق عال من المساواة واحترام حقوق الإنسان لم تصل إليه منظمات حقوق الإنسان الدولية ولا هيئات الأمم المتّحدة اليوم، فقد استمسك بالمساواة وطرح كلّ ما اصطنعه الظالمون من فروق بين البشر من حرّ وعبد وشريف ووضيع، وردّ البشر جميعا إلى حقيقتهم الكبيرة وأصلهم الواحد، قال الله تعالى: "يا أيّها الناس إنّا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم إنّ الله عليم خبير"، وقال صلّى الله عليه وسلّم "الناس لآدم وآدم من تراب، لا فضل لعربي على عجمي ولا لعجمي على عربي، ولا لأبيض على أسود ولا لأسود على أبيض إلاّ بالتقوى".
    وقد قال سيّدنا عمر بن الخطّاب رضي الله عنه متحدّثا عن سيّدنا بلال الحبشي الذي كان قبل الإسلام عبدا "أبو بكر سيّدنا وأعتق سيّدنا"، وقال رضي الله عنه أيضا حين طعن وأشرف على الرحيل في من يلي الأمر من بعده: "لو كان سالم مولى أبي حذيفة حيّا لاستخلفته على المسلمين". فما أحوجنا هنا في موريتانيا إلى مثل هذه الروح التي تنزل الناس منازلهم بحسب التقوى وأعمالهم الصالحة، وليس بحسب أصولهم الطينية.
   لقد علّمنا الإسلام أنّه ليس في الإسلام مواطن من الدرجة الثانية، كما علّمنا أنّه ليس في الإسلام طبقات، وليست ثمّة هيبة تلقائية لإنسان مهما كان تجعله فوق الآخرين، أو تحميه من المساءلة والمقاضاة والقصاص إذا لزم الأمر، والكلّ يتذكّر قصة أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب رضي الله عنه ومقاضاته لليهودي بشأن الدرع، وما حصل في تلك القصة العجيبة من أحداث تؤكّد عدل الإسلام وسماحته حتّى مع أهل الذمة، إذْ لهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم.
     نعم فالإسلام دين المساواة، ومع ذلك أيضا هو دين يقرّ بالتفاوت بين البشر، ولكن ليس من خلال المكانة الموروثة بل من خلال التقوى والعمل الصالح ومكارم الأخلاق، وهي قيم مكتسبة، فالتفاوت بين البشر يكون من خلال الطاقات والمواهب والاستعداد والعمل لما فيه خيري الدنيا والآخرة، وليس من خلال اللون أو النسب أو اللسان أو ما شاكل ذلك من الفروق الطبيعية بين الناس.
   إنّ الاعتراف بالتفاوت على أساسه السليم ضرورة للتقدّم الإنساني تجني البشرية ثمارها في كلّ حين، وعن طريقها يتعايش الناس ويخدم بعضهم بعضا في رضى وتسامح دون حقد ولا حسد.
د.محمد ولد محفوظ
                                ـ يتواصل ـ

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق