الثلاثاء، 8 نوفمبر 2016

رسالة من الرئيس المختار


أيها المواطنون :
أيتها المواطنات :

أحبائى أيها الموريتانيون الكبار:
أسمح لنفسي بالحديث معكم وإليكم، حديث أب لأبنائه، وفلاح لشجرة تعهدها ـ منذ بذرتها الأولى ـ حتى أصبحت خضلة، وارفة الظلال والغلال.
شعبي العزيز:
هذه المرة لن ألقي خطابا رسميا عبر الإذاعة الوطنية، ولن أخاطب حزب الشعب الموريتاني وهيئاته، ولن أتحدث إليكم من البرلمان، ولا من مجلس الوزراء، ولا حتى من القصر الرئاسي.
هذه المرة أتحدث إليكم ـ وأنا الذي أتمنى أن أكون قد عدلت فأمنت فنمت ـ من مكان آخر أحسه عبقا بالسكينة والهدوء.
ومن محاسن الصدف أن أتحدث إليكم، وأنتم تغتسلون بشمس نوفمبر، منتشين بالحرية، زارعين هاماتكم في السماء، كبرياء وعزة نفس.
نوفمبر منى وأنا منه، هو يحبنا ونحن نحبه، شمسه أليفة، وأيامه بها حميمية لا نظير لها، وهي تمر سريعة ـ كالمناسبات الحبلى بالفرح ـ لتلقى عليكم تحية الاستقلال المجيد.
شعبي العظيم :
أظن صادقا أنني تحدثت بما فيه الكفاية عن تجربتي معكم وبكم في النضال والحكم، وعلاقتي بالكيان الوطني الموريتاني، في مذكراتي التي أبدى أسفى لأنها لم تصل لغالبية الموريتانيين، فقد كنت أريدها مشاعة، ليعرف الجميع كم حاربنا بشجاعة، وتحملنا واختلط عرقنا بدمائنا ودموعنا، دفاعا عن هذا الكيان الذي أحببناه حد لثم ثراه الطاهر، والعناق الأبدي ببليل حصاه، وأريج تربته الندية العبقة مجدا وتاريخا ناصعا.
أيها الموريتانيون :
أعرف أنكم تحبونني لأنني أحبكم، ولأنني التقى معكم في عروة لا انفصام لها من حب "الجمهورية الإسلامية الموريتانية" الحرة الكريمة الموحدة الكاملة السيادة، لكنني يقيني القناعة بأننا كموريتانيين ـ وكأية أسرة في العالم ـ لدينا أبناء بررة، لا يكفرون بالتاريخ ،ولا يحاولون القفز عليه، ولدينا أبناء دون ذلك، لا يليق بوقارى الذي تربيتم عليه أن أصفهم بالعقوق، لكنهم ـ وعلى أية حال ـ يريدون القفز على تاريخ بأكمله وفى غفلة منه، وبالمناسبة فتاريخ المقاومة العسكرية والثقافية والسياسية ليس تاريخا لرجل أو قبيلة أو ولاية ، كلا ، إنه تاريخ لكل الموريتانيين، عليهم أن يفخروا به ويعتزوا، لا أن يناصبوه العداء، أو يلبسوه عباءة ليست عباءته .
لقد كتبت ـ ومعي جيل رائع من كل الجهات والألوان والثقافات والأعراق الموريتانية ـ تاريخا وطنيا حديثا بقلم ليس "رصاصيا" ولا "ممحاة" في مؤخرته، وحرصنا دائما على أن لا يكون لنا "صبع نقال" قد يمر بالخطإ على السطور "الصمغية" لمحوها دون قصد.
اليوم أخاطبكم، والجدل يعانق السماء صخبا حول "العلم الوطني" و"النشيد الوطني" بين من يرى أنهما جزء من ماض يجب سحقه والتخلص منه، وقطعة أثرية لا تناسب حركية العصر ودوران آلته، ومن يراهما جزء من تاريخ ذهبي لا يمكن التنكر له، فهو مثل المعدن الثمين، تمر كل الحقب، وتتغير الأزمنة والمواسم والقرون، فيبقى بنفس التجدد والألق واللمعان والصلابة الأصيلة.
وبودي هنا أن أوضح أن الثورة على "علم" و"نشيد" ليست هي الثورة الحقيقية، ففي الأيام التي كنا نحفر فيها الأرض البوار لتثبيت الكيان الموريتاني، واجهتنا اكراهات لا يعلم إلا الله حجمها وقوتها، وصرامة الظروف التي صاحبتها، وكانت كلها ضدنا.
إن الثورة التي فجرناها قناعة وصدقا، هي إقناع شعب بدوي بضرورة الانسجام في كيان وطني واحد، تذوب فيه القبائل والعشائر والبطون، والأعراق والثقافات والانتماءات الضيقة، وقهر مفازة تتقاسمها الذئاب وأمواج المحيط، لتكون عاصمة لكيان لا يريده احد، بل حتى من بين أبنائه ـ وأقولها بمرارة ـ من قلب به ظهر المجن ـ خيانة وولاء للأجنبي ـ قبل وأثناء وبعد معركة الاستقلال وبناء الدولة وحروب السيادة الوطنية، وكان مدعاة للخجل حقا أن نرى رجالا من أبناء وطننا، يحاربون تحت علم آخر، ويلعقون أحذية من يناصب العداء لكياننا الوطني، المفترض أيضا أنه لا وطن لهم سواه.
إنها ثورة قهرت 1200 كلم من السباسب والفيافي والكدى، لتربط الوطن الموريتاني بعضه ببعض، أيام الجفاف والبؤس والفاقة، في بلد لم يترك به ولا له المستعمر شيئا أي شيء، بينما ترك البلدان من حوله تموج بالحضارة والرقي، وأنا فخور بأننا بنينا بلدنا بأيدينا، ولم يبنه المستعمرون نيابة عنا، كما في بلدان أخرى.
الثورة بالنسبة لنا أن نخرج بسرعة من ربقة الاستعمار الفرنسي، متحملين أن يلدغنا إخوتنا قبل أفاعي الخارج، فينعتوننا ب"العملاء" و"الإمالزن" و"أعوان الاستعمار" فتلك ضريبة مستحقة للنجاح الذي حققناه برؤوس مرفوعة، ونعرف أننا لو لم نكن في المقدمة لما تلقينا طعنات من الخلف.
إن حجم التضحيات التي قدمناها لا يمكن قياسه اليوم ولا غدا، لكننا لا نريد جزاء ولا شكورا من احد، كانت لدينا قناعة بوطن وإيمان بأمة، وطموح للحرية، وفى سبيل القناعة والإيمان والطموح، نكون جبناء إذا لم نتحمل ظلم "ذوى القربى" قبل ظلم الآخرين.
لقد تحركنا بثقة عالية، وبشجاعة سيغترف بها من يرى الكأس كله، ولا يقضى عمره في التحديق في النصف الفارغ منه، نكرانا للجميل، وتنكرا للتاريخ وللذين صنعوه.
أممنا "ميفرما"، وأنشأنا "الأوقية " فكا للارتباط بعملة المستعمر،وبنينا نواة لجيش وطني موريتاني قوي، ادعوكم هنا للترحم على شهدائه الأبطال، وضباط الصف وضباط وجنود "الكتيبة الأولى للمظليين" الباكورة الأولى لذلك الجيش، ومدرسة الرجال الحقيقيين نسورا في الجو، وأسود شرى على الأرض، وحيتانا في البحر، نتذكر بعز كيف دافعوا عن الكيان الوليد ووحدته وسيادته، بدمائهم لا بالصراخ، وبأرواحهم لا بلطم الخدود، وفى الخنادق لا في الفنادق.
حاولنا ـ بشق الأنفس ـ تزويد الكيان الوليد بكل مقومات البقاء، كل الظروف كانت ضدنا الجيران، وحتى الإخوة الأشقاء، والمناخ ،والسياقات السياسية والجغرافية ،صحيح آن بعض الظروف تغيرت، عندما اكتشف البعض أننا لسنا صعاليك، ولا مغامرين، واتنا ماضون قدما في زراعة موريتانيا في عين العاصفة مهما كانت التحديات، فاكتسبنا بسرعة لا نظير لها احترام بعض الدول الوازنة إفريقيا وعربيا وعالميا، وحصلنا ـ بمعجزة ـ على ثقة زعماء العالم الحر وشعوبه المكافحة.
لقد خضنا بمفردنا معركة البناء الأولى على امتداد 15 عاما، بعدها قدر الله وما شاء فعل، دخلنا حربا لم تكن ضرورية، لكنها كانت حتمية، وكانت أليمة كأي حرب، خاصة عندما تكون حروب أشقاء أبناء جلدة واحدة، وباهظة الثمن ماديا وبشريا، لكنها ـ وللأمانة ـ كانت تستبطن ولادة حقيقية للشعور الوطني الموريتاني، فبغض النظر عن سياقاتها وملابساتها وتبعاتها فإنني سأظل أتذكرـ باعتزازـ أن الدم الموريتاني اختلط فيها دفاعا عن السيادة الوطنية، تحت علم واحد، ونشيد واحد، وقيادة واحدة ،ولن أنسى طوابير الشباب القادمين من الشرق والشمال والجنوب والوسط ،عربا وزنوجا وملونين، وهي تمتد طويلة أمام مكاتب التجنيد الذي لم يكن إجباريا، بقدر ما كان تطوعيا اقتضته ظروف قاهرة واستثنائية.
أليس رائعا أنهم تركوا الحمير والجمال التي جاءوا عليها من أعماق الريف الموريتاني، للتوجه رأسا إلى جبهات القتال ـ وبأسلحة تقليدية بسيطة ودون المرور بتكوين عسكري ملائم ـ أداء للواجب الوطني في مجتمع قبلي عرقي عشائري لم يزل به شيء من "جاهلية السيبة" ؟!!
أليس معجزة أن يخرج هؤلاء من قواقع القبيلة والجهة والمشيخة والعرق، موحدين خلف كيان وطني وليد، سرعان ما آمنوا به ،وعشقوه فوهبوه دماء زكية وأرواحا طاهرة، يستحقون فعلاـ وأنا اذكرهم وأنتم لن تنسوهم ـ أن ننحني جميعا إجلالا لذكراهم التي لن تغيب .
أيها الموريتانيون:
انتم اليوم تملكون بلدا عمره عمر رجل بلغ أشده، وإياكم أن تشبهوه بعمر امرأة تجاوزت سن اليأس، فموريتانيا ليس في قاموسها سن لليأس، فلقد علمتنا ـ مع الأمل والطموح والتعالي على الجراح كل الجراح ـ أن لها رجالا مخلصين، يظهرون وقت المحن، وعندما تكون الخطوب مدلهمة، والأفق مكفهرا، لاحتضانها وحمايتها، والحنو على شعبها الطيب الكبير، الموحد وراثيا "حنو المرضعات على الفطيم" .
لا أخاف عليكم التفرقة والفتن، فلقد آمنت ـ ومن بداية كفاحي في سبيل حريتكم مع نخبة من أبنائكم البررة ـ بأنكم شعب صبور قوي متماسك، بعربه وزنوجه، ببيضه وسوده وملونيه، يلحمه الإسلام العظيم لحمة لا سبيل لتفكيكها، أو النيل منها.
لا يهمنى أن تغيروا "العلم" أو "النشيد" أو تتركوهما ،فالتاريخ لا يتغير بتغيير كلمة ولحن هنا، أولون وشكل هناك، لكن يهمنى آن تكونوا واثقين كل الثقة أن اختيار لون العلم لم يكن اعتباطيا، وليس صحيحا أنه استنساخ ل"علم" بلد أو مدينة أو قارة أخرى.
ولئن كان البعض يريد سربلة العلم باللون الأحمر معتبرا انه يرمز لدم الشهداء ـ مع أن اللون الأحمر لدى بعض الشعوب يرمز لأشياء أخرى تناقض الرجولة أحرى آن تذكر بالشهداء ويجعل لون المستعمر الفرنسي وكأنه يريد ابتلاع النجم والهلال للقول بأنه عاد بقوة وصلف ـ فإنني أتساءل بصدق أليست أرواح الشهداء تصعد عبر طيور جنة خضراء إلى ملكوت الله ..؟
ألا يرمز النجم والهلال لأكثر الأشياء علوا ونورا وارتفاعا ومهابة سماوية ..؟
ألا تعانق أرواح الشهداء السماء حيث النور والسكينة ..؟
وأي عناق بالسماء أروع من الالتصاق بالنجم والهلال، وهما يتربعان ـ بشموخ لونهما الذهبي ـ في مساحة خضراء، ترمز للحب والخير والنماء والخصب، هذا فضلا عن كونها ترمز للون الكتيبة الخضراء التي استظل بها الصحابة والفاتحون، وهم يسلكون درب الرسول محمد ابن عبد الله صلى الله عليه وسلم، ناثرين عطر المحبة والحرية والتعايش والسلام ـ عبر العالم ـ كما هي رسالة الإسلام العظيم..؟
ألا يذكر الهلال المسلمين بمواعيد ومواقيت لا غنى عنها في عباداتهم اليومية والأحكام المتعلقة بها كالصوم والفطر والنحر والحج مثلا..؟
أليس النجم رمزا للاهتداء عبر المسالك والدروب، وعلامة على مواقيت ومواسم ومناسبات فلكية ودهرية لها مكانة خاصة في أذهان الناس..؟
وواضح ـ لمن يريد الوضوح ـ أن كلمات النشيد مرتبطة تماما بالعلم الوطني ألوانا ودلالات ورموزا، فالنشيد يطالبنا بأن نسلك سبيل المصطفى عليه الصلاة والسلام، وهي سبيل لابد للسير عليها من استحضار الكتيبة الخضراء ولونها، باعتبارها التي رسمت دروب الفتح الإسلامي عبر تاريخ العالم وجغرافيته، ولانهاية لسبيل المصطفى إلا في أعالي السماء حيث النور والقداسة، والنجم والهلال، وحيث تعانق أرواح الشهداء كل القيم الرفيعة التي سقطوا من أجلها.
ولا أتذكر أنه وجد في أيامنا كلها موريتاني واحد رفض السير على نهج النبوة، أو رفض الموت عضا بالنواجذ على الدين الصحيح القيم، حيث لا بدع ولا غلو ولا تطرف، ولا أتذكر أنه وجد موريتاني لا ينتشي طربا وهو يسمع لحنا جميلا، وكلمات من بينها ترتيل قرءاني مقدس ومهيب لدى كل المسلمين، لم أر أي موريتاني بحث عن جمال الكلمات واللحن خارج نشيد بلاده الوطني، ولم يطلب منى أي موريتاني إعادة النظر في النشيد والعلم الوطنيين، فهل كان جيلنا كله مغفلا، عديم الأذواق، بلا "آذان بيضاء"، مصابا ب"عمى الألوان" ،لديه تأخر "نطق" وطني ..؟!!
أعرف أن الأذواق تغيرت، والرؤى تبدلت، والخرائط مزقت، والمجتمعات شهدت هزات عنيفة، لم تستطع بعض الشعوب تحملها، فأصبحت تابعة لا رأي لها، ومن لا رأي له لا يلتفت لتاريخ، ولا يهتم بحاضر، ومن الأكيد أن المستقبل لن يكون في صالحه.
لست هنا لأدافع عن العلم والنشيد الوطنيين، فليسا بحاجة لمن يدافع عن شكلهما الحالي، وسيكون علي وعليكم جميعا إذا قررتم ـ مجتمعين أو بالأغلبية ـ تغييرهما أن تحترموا إرادتكم الجمعية فيهمنى أن تكونوا متماسكين دائما، تحترمون رأي غالبيتكم، ففي النهاية لم نربح من العالم كله سوى كيان وطني موريتاني، أعرف أن إرادة هدمه أيسر من إرادتنا الأصيلة في بنائه وتقويته، ومن السذاجة الاعتقاد بأن تغيير شيء أي شيء يعنى مصادرة تاريخي والجيل الذي تعب معي من أجلكم، كلا، فتاريخنا عصي على التغيير، محصن ضد النسيان، لا ينقصه أن يتغير علم ونشيد، ولا يزيده أن يظلا كما كانا.
أن يتغير العلم أو النشيد أويتم الإبقاء عليهما، لا يهمنى بقدر ما يهمنى أن تظلوا دائما إخوة أشقاء، في وطن موريتاني لكم جميعا، وعليكم صيانته وحمايته، وتذكروا دائما كيف اقتلعناه من بين فكي "التنين"، وكيف تركناه لكم صقيلا، وخرجنا منه بأياد نظيفة لا تحمل معها شيئا من حطام الدنيا، وقلوب عامرة بالحب والوفاء، وعاش على عرقنا ومعاناتنا، ولم نعش بماله ولا بنفوذه، كنا ننفق عليه، ولم نجعل منه "البقرة الحلوب" التي نستبقى "لبنها" لأنفسنا دون عامة الناس. 
لا تتركوا السفينة تغرق بكم.
اصطفوا ساقا لساق، ومنكبا لمنكب، حتى لا تجد شياطين الفتنة والتفرقة والتوسع والبغي، ثغرة تنفذ منها لتفتيت صفوفكم المهيبة.
أنا ـ ولأنني أعرفكم ـ أحبكم واثق فيكم، وتذكروا أننا بنينا موريتانيا القوية الموحدة كاملة السيادة، لتكون أمانة في أعناقكم جميعا، فلا تفرطوا فيها، ولا تخذلوها ولا تسلموها ولا تتخلوا عنها تحت أي ظرف من الظروف.
لكم حبي و مودتي .
الأستاذ المختار ولد داداه
حبيب الله أحمد

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق