الأربعاء، 2 نوفمبر 2016

الطريق إلى الوحدة الوطنية (ج2)

   

 كان الجزء الأول من هذه المقاربات بمثابة المهاد الذي يؤصّل لفكرة الوحدة الوطنية من خلال توضيح الحاجة الماسة إلى تكريس قيم الدولة الوطنية والالتفاف حولها، وكذا الدعوة إلى التآلف والتساكن ونبذ الفرقة والخلاف
بين المكوّنات الاجتماعية الوطنية، وقد ختم ذلك الجزء بالحديث عن داء القبلية وخطورته على الوطن باعتباره أقوى قشّة ما زالت تقصم ظهر بعيرنا. وفي هذا الجزء مواصلة لعرض بقية أمراضنا الاجتماعية، وما ذلك إلاّ لأنّ البحث عن دواء فعّال لأي داء يقتضي ـ أول ما يقتضي ـ الكشف الناجح عن طبيعة الداء، فلو كانت هذه الأمراض الاجتماعية شخّصت منذ بداية الاستقلال الوطني وتمّت محاصرتها حينئذ بالعلاج الناجع لكنّا اتّجهنا اليوم متحدين، بل على قلب رجل واحد، إلى عهد جديد من البناء والانسجام نحن في أمسّ الحاجة إليه. أمّا المعضل الثاني فهو:   
2 ـ الاسترقاق: الخطيئة والمخلّفات
  الرق هو أبشع المظالم في حياتنا الاجتماعية لأنّه يعني امتلاك الإنسان للإنسان، بما يتيحه هذا الامتلاك للسيّد من إمكانية استخدام العبد كبضاعة يتصرّف فيها كيف يشاء، والحقيقة أنّ الرق استثناء على الأصل، إذ المبدأ أنّ الإنسان من حيث هو ولد حرّا، والقاعدة أنّه لا استعباد إلاّ بدليل شرعي، ولئن كان النصّ القرآني صريحا في الحديث عن العبودية، إلاّ أنّ تحقيق مناطها في الحالة الموريتانية كما أكّد على ذلك كثير من العلماء والمؤرّخين والباحثين الاجتماعيين دلّ أنّ الراجح من أمرها هو كون ما مورس منها على هذه الأرض إمّا أنّه لا أصل له من الناحية الشرعية إطلاقا، و إمّا أنّه  مشكوك في صحته على أقلّ تقدير، ومهما يكن من أمر فقد بات من العار اليوم أن تكون موريتانيا آخر بلد في العالم يلغى فيه الرق، والبلد الوحيد الذي ما زال يشار إليه بالبنان، إنْ تصريحا أو تلميحا بأنّه آخر معقل للعبودية في العالم، والمفارقة العجيبة مع ذلك أنّه بلد العلم والعلماء والمحاظر وبلد القيم الأصيلة ومكارم الأخلاق، ولذا بات من اللازم الإلحاح على النصوص الشرعية والفتاوى الفقهية والأبحاث الأكاديمية والنظريات الفكرية والاجتماعية والمعالجات السياسية والاقتصادية التي تسعى لوضع حدّ نهائي لهذا الكابوس المزعج حتّى توضع موضع التطبيق الفعلي.
   لقد أكّدت فتاوى عديدة وأبحاث مختلفة بطلان المبدأ الذي تمّت على أساسه ممارسة هذه الخطيئة وبالتالي بطلان الأثر الناجم عنها ماديا وسلوكيا، ومن تلك الفتاوى القديمة فتوى القاضي أحمد باب التنبكتي في أوائل القرن السابع عشر وكذلك كثير من الرسائل والأحكام التي تناولت الموضوع لاحقا، وأخيرا فتوى رابطة العلماء الموريتانيين وكبار العلماء في البلد، هذا إضافة إلى القانون الموريتاني الذي يجرّم هذه الظاهرة تجريما باتّا ويعتبرها في درجة الجريمة ضدّ الإنسانية، ومع ذلك أيضا صدرت دراسات وأبحاث أكاديمية عديدة تناولت هذه الظاهرة  في أبعادها التاريخية والسيكولوجية والسوسيولوجية وأكّدت جميعا انعكاساتها الخطيرة على حياة الأفراد والمجتمعات.
   إنّ التمكين لهذه المرجعيات وإعطاءها صبغة الإلزام، ونشرها على أوسع نطاق يتيح الفرصة للنصوص القانونية على وجه التحديد، وكذا الأدلة العقلية والعلمية المختلفة أن تأخذ مداها بغية وضع قانون تجريم العبودية موضع التطبيق، وتكون تلك خطوة ضرورية نحو مواجهة تبعاتها كالفقر والجهل والتهميش والنظرة الدونية، وهذه بالضبط هي التحدّيات التي يجب أن يقع عليها التركيز اليوم. إنّ الكثير من الموريتانيين للأسف ما زال يتصوّر إلى الآن بطرا وكبرا أنّه خُلق سيّدا، بينما خُلق آخرون ليكونوا له عبيدا وأتباعا، مصدّقين بذلك نظرية "العنصر السامي" التي أثبتت فشلها في الغرب وها هي أصبحت الآن أثرا بعد عين وسطرا في كتاب التاريخ المركون في الزاوية بعد أن خيضت في سبيلها أعتى الحروب وأكثرها شراسة وباءت بخفّي حُنين.
    و من مقتضيات معالجة إشكال العبودية في بلادنا التعميم  في تناول الظاهرة ومواجهة مخلّفاتها المشينة لدى جميع المكوّنات الوطنية وليس لدى مكوّن واحد، إذ من المعلوم أنّها قد تتّخذ عند بعض أطياف النسيج الاجتماعي الأخرى وضعيات أكثر استفزازا واستهتارا بالقيم الإنسانية السامية، ممّا يقتضي لفت النظر إلى ذلك أيضا ومعالجته بكلّ سلالة وهدوء وتجرّد ضمن السعي الحثيث لوضع حدّ نهائي وشامل للظاهرة ومخلّفاتها وثقافتها الماحقة.
  إنّ مقاربة إشكال العبودية تستلزم كذلك تثمين الصفحة الإيجابية من تاريخ هذا العنصر الذي يعود إليه الفضل في النهوض بأعباء شتى كانت ضرورية لبقاء المجتمع على هذه الصحراء القاسية أزمنة وأحقابا كالأعمال اليدوية من زراعة ورعي وخدمات في شتّى مجالات الحياة، وما زال بعض منه إلى اليوم يقوم بهذه الأدوار المهمّة وبغيرها من الوظائف التي لا غنى للمجتمع عنها، وكذلك ضحّى أبناؤه كبقية أخوتهم بدمائهم الزكية دفاعا عن حياض الوطن قبل الاستقلال وبعده. لكنّ أغلبه يعيش من الفقر والجهل والتهميش ما يستوجب العمل الجاد اقتصاديا واجتماعيا وتربويا، من قبل الدولة والساسة والنخبة المثقّفة من أجل النهوض به وجعله قادرا على اللحاق ببقية عناصر المجتمع.
 3 ـ "لمعلمين": مأساة الصورة النمطية       
   لا جدل في أنّ هذه التسمية مستمدّة من العلم والنسبة إلى العلم تشريف لكلّ كائن بشري، وكفى دليلا أنّ الباري عزّ وجلّ وصف نفسه بأنّه "علاّم الغيوب" ، فهو سبحانه الذي "علّم الإنسان ما لم يعلم" وعلّم الأنبياء بالوحي والإلهام، قال تعالى حديثا عن داود عليه السلام "وعلّمناه صنعة لبوس لكم" وعلّم نبيّنا محمدا صلى الله عليه وسلم بواسطة جبريل عليه السلام "علّمه شديد القوى"، والأنبياء جميعا معلّمون، لأنّهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ويهدون الناس إلى صراط مستقيم، صراط الله العزيز الحميد، ثمّ يأتي دور العلماء لأنّهم ورثة الأنبياء فهم كذلك معلّمون للناس يسلكون بها سبل الرشاد والهداية، وفي النهاية يأتي سائر المعلّمين الذين يدرّسون شتّى العلوم والمعارف المادية والمعنوية، ومن هؤلاء "لمعلمين" الذين هم أصحاب الصناعة، وقد جاء في مباحث علوم القرآن المجيد لمحمد العربي أنّ الصناعة والفنون والمعامل ورد ذكرها في 17 سورة من القرآن الكريم، أولها سورة البقرة وآخرها سورة الحديد، وهذا فيه تنويه عظيم بشأن الصناعة وتنبيه على أهميتها في الحياة البشرية، لأنّ الصناعة من أسس العمران التي يترتّب عليها الكثير من المصالح الحيوية للإنسان.
   وعبارة "لمعلّم" فيها تصحيف بسيط لكلمة المعلّم الذي هو اسم فاعل من علّم، وبهذا فلمعلمين معلّمون علّموا أبناءهم مهارات كثيرة في فنّي النجارة والحدادة، وعلّموهم كيف يبذل الإنسان مجهوده الذهني والبدني للوصول إلى منتوج معيّن ينفع به نفسه ومجتمعه، كما علّموا المجتمع أيضا الشيء الكثير، علّموه كيف يقهر الإنسان الصحراء والحياة القاسية فيها، وكيف يمكن للإنسان أن يجمع بين الحسنيين، بين درهم لمعاش وحسنة لمعاد. وزيادة على ذلك فقد تعلّم هؤلاء العلوم الشرعية واللغوية وعلّموها، فكان منهم حفظة القرآن الكريم والفقهاء النابهون، فنافسوا الزوايا في ميدان تخصّصهم.
    ورغم كون الموقف الديني حيال فضل العمل اليدوي واضح المعالم في كتاب الله وسنة رسوله صلّى الله عليه وسلّم وبارز التأثير في نهضة الأمة وحفظ كرامة الإنسان، وأكبر دليل على ذلك أنّ الأنبياء بأنفسهم امتهنوا شتّى الأعمال الحرفية، رغم ذلك إلاّ أنّ موقف الموريتانيين من الحرفيين، وخصوصا من "لمعلمين" بالغ العجب، ومن مظاهره، الاحتقار الغريب لذواتهم والاستهانة الواضحة بأعمالهم، يتوارثون ذلك من جيل إلى جيل، ممّا يمثّل استهتارا بالقيّم الدينية والإنسانية معا.
    إنّ "لمعلمين" هم مهندسو هذه البلاد عبر تاريخها المديد، وصنّاع تراثها المادي، وهم أيضا من الذين أمّنوا مقوّمات الحياة على هذه الصحراء القاسية، وما زالوا إلى الآن هم واجهة البلد المضيئة على العالم الخارجي في مجال حفظ التراث ونهضة الصناعة الحرفية، ورغم ذلك فما حصدوا غير التقزيم والتشويه والتنكّر في مجتمع يمجّد العطالة ويحتقر العمل الحرفي وأهله.
    لقد بات هذا الواقع المؤسف يستلزم تدخّلا فاعلا من الدولة والنخبة والإعلام لتفنيد الصورة النمطية السيّئة التي علقت بالذاكرة الجمعية عن هذه الفئة، وإعادة الاعتبار إلى الحرف والحرفيين، بل وتقديم الدعم المادي والمعنوي للذين ما زالوا يمتهنون الصناعة التقليدية منهم باعتبارهم يمثّلون رافدا مهما من روافد الاقتصاد الوطني خصوصا في جانب السياحة.
4 ـ  "إيكاون": ازدواجية النظرة
   كلمة "إيكيو" تصحيف لعبارة "كيول"التي هي في الأصل كلمة زنجية تطلق على الشريحة التي تمتهن الفن الموسيقي، والموسيقى رسالة تثقيف وتوعية، تعبّر عن روح الجماعة وتسجّل مآثرها وهي عمل فردي أو جماعي يقصد به سدّ حاجة معيّنة بطريقة فنّية موثّرة تناسب الذوق العام وتحترمه، وهي إلى ذلك كالإسفنجة تشرب وتستوعب كلّ ما حولها من قيم وتاريخ وعادات ومنجزات الحياة المختلفة وتقدّمها طرية للناس أنّى طلب إليها ذلك،وقد قال الغزالي: إنّ من لم يحرّكه الربيع وأزهاره، والعود وأوتاره، فهو فاسد المزاج ليس له علاج" بينما قال ابن خلدون في صناعة الغناء "هذه الصناعة هي آخر ما يحصل في العمران من الصنائع لأنّها كمالية من غير وظيفة من الوظائف إلاّ الفرح"، وقد قال العالم الفيزيائي المشهور آينشتاين "لو لم أكن فيزيائيا من المحتمل أن أصبح موسيقيا، لأنّ الفنون الجميلة تلعب دورا مهمّا في المجتمع الإنساني وتجعله أكثر رقيا، فالفنون حالة من حالات الرقي الإنساني وهي التي تحرّر الإنسان من الحالات النفسية السلبية كالخوف والقلق والتعصّب أو أيّ مشاعر مكبوتة داخله لكي تقوده إلى الاستقرار النفسي، فكبت المشاعر والأحاسيس لفترات طويلة يسبّب العقد النفسية.
ويرى العارفون بالطب النفسي أنّ الصوت الحسن يرتاح له القلب وتهتزّ له الجوارح، ولذلك كرهوا للطفل أن ينام بعد البكاء حتّى يطرب. وحتى أنّهم يذكرون كون البهائم تحبّ الصوت الحسن وتعرف فضله، كالإبل التي تطرب للحداء مثلا.
    وقد اختلف الفقهاء في الغناء فأجازه البعض وكرهه البعض، ومع ذلك فقد وصلت صناعته ذروتها في التراث العربي وخصوصا زمن قمة الحضارة العباسية في عهد الخليفة هارون الرشيد عندما ظهر إبراهيم الموصلي وابنه إسحاق، وتطوّرت هذه الصنعة مع زرياب في الأندلس وأحبّها الناس من خلال الإيقاعات الجميلة والجديدة.
   أمّا الموريتانيون فتطبع ازدواجية غريبة نظرتهم وموقفهم من "إيكاون"، فهم يحبّون الموسيقى ويقدّرونها ويحترمون أهلها، ولكن ظاهريا فقط، ومن ذلك ما يروى أنّ الرجل كان يلتقي في منزل الفنّان قاتل أبيه فلا يستطيع الأخذ بثأره احتراما للفنّان. وسبب ذلك أنّهم الفئة التي حفظت للموريتانيين تاريخهم، فكانوا حرّاس القيم الفاضلة الذين يسهرون على توزيع مقاييس النبل، كما كانوا وسائل إعلام تشيع روح الحسّ الجمالي ومكارم الأخلاق وثقافة الشهامة والشجاعة والوفاء في ربوع الوطن.
    ورغم هذا الدور الإيجابي الكبير الذي قام به "إيكاون" في التاريخ والحاضر الموريتاني على السواء، وكذلك الاحترام المجازي فإنّ حالة من الازدراء وإلحاق جملة من الأوصاف المعيارية السلبية بهم دون غيرهم  وكأنّها طباع جبلوا عليها ما زالت عالقة في الذهنية الجماعية، وهو ما يقتضي التدخّل العاجل لتصحيح هذا الخطأ الفادح. وزيادة على ذلك يتمّ تهميشهم في الحياة السياسية والاقتصادية للبلد، ولعمري فهذا أيضا من التحدّيات الكبرى التي لا بدّ من مواجهتها ووضع حدّ نهائي لها، فموريتانيا وطن للجميع، ويسع الجميع، ومن ثم فلا بدّ أن يجد فيه كلّ ذاته كاملة غير منقوصة.
5 ـ "آزناكه": ظلم ذوي القربى..
   عبارة "آزناكه" مستمدّة في الأصل من كلمة "صنهاجة" وتعني الشريحة التي مارست تاريخيا مهنة رعي الماشية وتوارثها أجيالها، فمنها من يرعى الماشية لنفسه، ومنها من يرعاها للآخرين مقابل أجر، ويختلف الدارسون في انتماء هذه الشريحة فبينما يرى البعض أنّ لها أصولا واحدة يرى آخرون أنّ لها أنسابا مختلفة وإنّما جمعت بينهم المهنة شأنهم في ذلك شأن لمعلمين وإيكاون.
    ومع أنّه لا يوجد ما يميّز بين هذه الفئة وبقية السكان العرب من حيث اللون واللسان والعادات لكنّها عانت من النبذ الاجتماعي والتهميش، وكانت من الفئات التابعة التي تستقرّ في أسفل الهرم الاجتماعي، بحيث كانت تقدّم المكوس للعرب والزوايا مقابل الحماية الأمنية والروحية.
    وقد تعرّضت هذه الفئة لمظالم تاريخية عديدة، فالمتغلّبون يسخّرونها لأعمال ووظائف معيّنة ويسخرون منها، وقد خلقت علاقات المجتمع مع "آزناكه" أحيانا، بحسب صاحب "الوسيط"، مستوى قريبا من الاسترقاق بلغ حدّ توارث الرقاب والسيطرة على الأموال والولاء حيث يقول "وصارت حسّان تتناهب الأموال ويقاتل بعضهم بعضا، وصار ما كانوا يأخذونه من اللحمة (آزناكة) ملكا متوارثا إلى أنّ صاروا يبتاعون رقاب اللحمة أعني أن يبيع أحدهم من يتولاه للأخر، مع اعترافهم بأنّهم أحرار ولا يعنون بالبيع الاسترقاق الشرعي بل مرادهم بيع المكوس الذي يأخذ أحدهم" ويزيد ابن حامد هذا المعنى وضوحا حيث يقول: "وهم يتبايعون في الأصحاب ويرثهم منهم الذكور دون الإناث"
   ومع أنّه يلاحظ بشكل عام أنّ هذه الشريحة لم تعد موجودة بالحجم ولا بالشكل الذي كانت عليه في السابق، فما هو موجود منها اليوم لا يعدو مجموعات قليلة متناثرة في البلاد، كما يلاحظ أنّ النظرة السلبية إليها بدأت تراوح مكانها نحو الأحسن، بيد أنّها ما زالت في أمسّ الحاجة إلى رعاية الدولة وتوجيه أبنائها إلى المدارس، كما يجب التأكيد على أنّ  ما تقوم به هذه الشريحة المحترمة مجرّد كسب حلال للحصول على لقمة العيش بطريقة شريفة مارسها الأنبياء من قبل، وليس فيه أدنى مذمّة.

د. محمد ولد محفوظ
                                     ـ يتواصل ـ


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق