الأربعاء، 2 نوفمبر 2016

الطريق إلى الوحدة الوطنية (ج3)

   

بعدما تمّ التطرّق في الحلقتين السابقتين من "الطريق إلى الوحدة الوطنية" إلى بعض الإشكاليات الاجتماعية المزمنة والحادة، والتي بات من اللازم أن تجد حلاّ ناجعا، نعرض الآن لقضيتين محوريتين أخريين،
أولهما العلاقة بالمكوّن الوطني الثاني أقصد أخوتنا الزنوج الذين هم كسواد أعيننا ونحن وإيّاهم وجهان لعملة واحدة، أمّا الثانية فوضعية المرأة عندنا كعنصر من الضروري أن يكون فاعلا في المنظومة الاجتماعية، وإن كان للأسف يلاحظ أنّ وضعيته في التركيبة الاجتماعية الوطنية ما زالت مختلة إلى حدّ كبير.
   1 ـ  مهلا.. فللبيت الموريتاني ربّ ثان:
     شهد تاريخ هذه البلاد ترابطا حميما وتآلفا جميلا بين المكوّنين العربي والزنجي، فرغم تاريخ السيبة والحروب الكثيرة بين القبائل والإمارات وحتى بين الأسر، فقد كانت العلاقة في الأغلب الأعمّ طيبة بين هذين المكونين، ولم يسجّل التاريخ قبل الاستقلال الوطني حربا إثنية بينهما إلاّ نادرا، بل على العكس كان الانسجام والتعاون يطبع إطار الصلات بينهما، وطبيعي أن يحدث ذلك، بفعل العقيدة الإسلامية الواحدة والمذهب المالكي الذي يتمسّك به الجميع، وكذلك ظلت اللغة العربية إلى عهد قريب هي اللغة الوحيدة المكتوبة  في هذه البلاد، فبها توثّق كلّ العقود التي تضبط التعامل بين الجميع، ، كما وصل الامتزاج قمّته عن طريق علاقات الجوار والقرابة والمصاهرة.
      وحين استهدف الاستعمار هذه البلاد وانتفض الخيّرون فيها لمقاومته لم يتأخّر إسهام إخوتنا الزنوج، بل كانت مقاومة فودي ادياكيلي ومامادو لامين وغيرهما إلى جانب مقاومة إخوتهم العرب دليلا واضحا على شهامة هذا المكوّن ونبله وتشبّثه بأرض الوطن، بل واستعداده للتضحية في سبيل حرية الوطن واستقلاله. وعن إسهامهم العلمي والثقافي فحدّث ولا حرج، ومن ذلك المجهود المشهود الذي اضطلع به فضيلة الشيخ الحاج محمود با رحمه الله على سبيل المثال لا الحصر.
    ولمّا تمّ الاستقلال وحدث أن دخلت البلاد في أتون حرب عبثية مع الأشقاء في الصحراء الغربية أثبت إخوتنا الزنوج مجدّدا أصالة طينتهم وصلابة شوكتهم فاستشهدوا في ساحات الشرف دفاعا عن وطنهم وحوزته الترابية.
    غير أنّ هذا لا ينفي أنّه في بعض الحالات قد تقع بعض الاحتكاكات التي يؤسف لها كلّ الأسف بين المكوّنين الزنجي والعربي في البلد، ومنها أحداث 1966 وأحداث 1989، ورغم اختلاف السياق والعوامل والمظاهر والنتائج فقد مثّلا صفحتين سوداويتين في تاريخنا الحديث لزم على الجميع أن يتكاتف ويتحالف حتّى لا يتكرّر ما حدث فيهما مرة أخرى.
    لقد أحسنت الدولة الموريتانية مؤخّرا حين استقدمت المبعدين من أبناء الوطن في أحداث 89 واعتذرت إليهم وحاولت جبر الضرر الواقع عليهم، عبر تعويضهم عن بعض الخسائر التي تعرّضوا لها على أديم أرضهم، ومن المؤكّد أنّ أي خطوة أخرى تُتخذ في هذا الاتجاه وتمكّن الضحايا وذويهم من الوصول إلى حقوقهم كاملة مادية كانت أو معنوية كتسوية ملف الموظفين مثلا الذين تمّ تسريحهم بشكل فجّ وظالم ستكون خطوة في الاتجاه الصحيح، وستخدم الضحايا والوطن على حدّ سواء.
     لكنّ ما حصل من أخطاء وظلم يأسف له كلّ الوطنيين الأخيار لا ينبغي أن يكون على حساب الألفة والمودة والثقة والاحترام المتبادل بين عناصر الشعب الواحد، وإنّما هي أخطاء وقع فيها نظام سياسي في سياقات تاريخية وجيوسياسية معيّنة، وغالبية المكوّن "الأبيض" بريئة منها براءة الذئب من دم ابن يعقوب، وبالتالي لا يمكن أن تكون بأيّ حال مسوّغا لإحداث قطيعة بين الطرفين، ولا أن تكون مناسبة لتبنّي أيّ دعوة للتطرّف أو الانفصال مهما كان نوعها، إذ لا شكّ أن ذلك سيكون من باب المفارقة الغريبة وغير المقبولة، فنحن جميعا تحت علم الدولة الواحدة والشعب الواحد والدين الواحد ما زلنا شعبا متخلّفا ودولة فقيرة، فكيف ستكون أوضاعنا إذا تشتّتنا وتفرّقنا أيدي سبأ لا قدر الله، ثمّ أليس العالم أجمع يجنح اليوم إلى الاتحاد والتكتّل حتّى يجد لنفسه موطئ قدم في هذا العالم المادّي الصارخ الذي لا يرحم الشعوب الضعيفة ولا الأمم المفكّكة، أوليس من باب المغامرة المأساوية السباحة عكس التيار؟!
    بيد أنّه من واجب الدولة أن تنصف كلّ مواطن أو مجموعة من الزنوج تحسّ أنّها وقعت ضحية ظلم مهما كان نوعه، أو تشعر أنّها لا تنعم داخل بلدها بحقوقها السياسية والاقتصادية كما يلزم، كما يجب عليها أن تحرص على تنمية وتطوير مناطقهم الجهوية على قدم المساواة مع بقية مناطق الوطن الأخرى، وأن تعمل حثيثا على ترقية اللغات الوطنية (البولارية والسنكية والولفية) حتّى تصبح لغات حيّة متطوّرة ولها حضورها الفاعل في الشأن المحلي. إنّ ما يجب أن نطالب به نحن جميعا ونسعى إليه حقيقة هو الوطن الذي يسع الجميع ويضمن حقوق كلّ المواطنين، الوطن الذي لا يحسّ فيه المواطن بالإقصاء على أساس لونه أو لسانه أو جهته، وإنّما هو وطن الإيخاء والمساواة، وطن يقوم على ثنائية الحقوق والواجبات، فللشعب حقوق ناحية الدولة له كامل الحق أن يطالب بها وخصوصا حين يحسّ بأنّها مهضومة، غير أنّ عليه واجبات يلزم أن يؤدّيها ناحية وطنه، ومن أهمّها المحافظة على كيان الوطن وصيانة حوزته الترابية والحرص على وحدته وأمنه وتطوّره.
وعلى المستوى الداخلي ما زالت شرائح اجتماعية عديدة داخل مكوّن إخوتنا الزنوج تعاني النظرة الدونية والاحتقار، فأحفاد الأرقاء والحرفيون والفنانون يعانون ما يعانيه إخوانهم العرب من نبذ اجتماعي، لذا بات من الضروري التعاون لمعالجة وضعيتهم داخل مكوّنهم وعلى المستوى الوطني العام.
2 ـ "وَلَهُنّ مِثْلُ الّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوف":
  إنّ مشكلة تخلّف المرأة في موريتانيا كمشكلة تخلّف المرأة في سائر البلدان العربية والإفريقية تعود إلى هيمنة الحياة الاجتماعية التقليدية، أي إلى العادات والتقاليد المعمول بها في المجتمع، تلك العادات التي جعلت المرأة ضحية لغياب العدالة الاجتماعية وانعدام الوعي، وجعلت شرفها في أحيان عديدة رهينا بحبسها في المنزل وليس بتسليحها بالعلم والتربية الحسنة، في حين أنّ الشرف الحقيقي للمرأة هو وليد تربيتها وإرادتها ولا يأتي نتيجة سجنها والتحجير عليها. فالعادات والتقاليد إذن هي التي جعلت دور المرأة لدى بعض الناس في كلّ مناطق الوطن محصورا في اعتبارها متاعا للرجل ومصنعا للأولاد لا غير، والأسوأ من ذلك أن تقهر ويمارس عليها العنف الجسدي والنفسي,
    لقد كان الموقف الإسلامي من المرأة في غاية الإنصاف، فقد وجدها في الجاهلية ضحية الوأد الظالم فانتشلها وكرّمها وفتح أمامها كلّ دروب الحياة في إطار احترام خصوصيتها الفيزيولوجية والنفسية، فقد قال تعالى: "ولهنّ مثل عليهنّ بالمعروف"، وقال صلى الله عليه وسلم "استوصوا بالنساء خيرا".
    إلاّ أنّ وضعية المرأة في مناطق عديدة من موريتانيا من أوضح الأمثلة على القهر ومن أبلغ الأدلة على اضطراب الذهن المتخلّف القائم على الاستيلاب والحيف الاجتماعي من قبل الزوج أو الأب أو العم أو الخال، وبهذا فكيانها في حالات عديدة ليس لها، فهي لا تختار ولا تناقش ولا تفكّر ولا تحلّل، وإنّما عليها أن تخضع للسلطة بكلّ معنى من معانيها السابقة، وكلّ ذلك يعتبر خطأ جسيما. فمن المعلوم أنّه قد استقرّ في أدبيات النهضة والتنمية في المجتمعات المتقدمة أنّ مجتمعا لا يطيق أن ينهض مع إضعاف نصفه واستضعافه، بمعنى أنّ الخسارة المترتّبة على إضعاف المرأة في منظور النوع قد تفوق الخسارة في منظور الكمّ أضعافا. كما استقرّ لدى تلك المجتمعات الناهضة أيضا أنّ حقوق الإنسان من حيث هو غير محدودة، وهي تتنامى باضطراد مع رقي الإنسانية. و على هذا الأساس إذا كانت الحقوق الأساسية للمرأة اليوم ـ كالرجل تماما ـ هي أن تعيش حياة صحية وتحصل على المعرفة وتتوفر لها الموارد اللازمة لمستوى عيش لائق، إلاّ أنّ التنمية البشرية الحديثة لا تقف عند هذا الحد، بل تتعدّاه إلى حقوق إضافية كالحرية السياسية والاقتصادية والاجتماعية، مع توفّر فرص الإنتاج والإبداع، والاستمتاع باحترام الذات وضمان الحقوق.
   والسبب في ذلك يعود إلى أنّ المرأة ليست فقط نصف المجتمع، بل هي قطب الارتكاز في تهيئة وتنشئة الأجيال، وهي الساعد الأيمن للرجل لأنّها ربّان الحياة الزوجية وشراعها، هي المثبّت لركن المؤسّسة الاجتماعية المحوري ألا وهو البيت، وهي محرّك الاستقرار النفسي والعاطفي داخله، فإن صلح إعدادها وتعليمها صلحت الأسرة والمجتمع والدولة، وإن فسدت انهار الكلّ.
    ومع ذلك فما زالت التحدّيات التي تواجهها المرأة الموريتانية كبيرة كعقلية النظرة الدونية، فهي كما يقولون ناقصة عقلا ودينا، ثم الزواج المبكّر والزواج القسري وزواج المنافع بين الأسر خارج إرادة الفتاة، وكثرة الإنجاب، وانتشار الفقر بين الأرامل والمطلّقات وارتفاع المهور.
   من هنا كان لزاما علينا جميعا أن نعلّم البنات ونشرف على تربيتهنّ التربية الحسنة، ونؤطّرهنّ التأطير المناسب الذي يضمن ولوجهن لجميع مناحي الحياة المناسبة لخصوصيتهنّ بكلّ ثقة واقتدار، وأن نكون يدا واحدة في سبيل أن نرفع عن المرأة كلّ ظلم مسلّط عليها ماديا كان أو معنويا، وأن يُترك لها المجال لاختيار شريك الحياة على ضوء حديث النبي صلّى الله عليه وسلّم: "إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوّجوه، إلاّ تكن فتنة وفساد كبير" كما يجب على الدولة أن تسهر بشكل حازم على تطبيق التعليم الإجباري للبنات، وأن تحمي حقوق المطلّقات، وترعى النساء من معيلات الأسر، وكذلك عليها أن تدفع إلى الأمام بقوانين التمييز الإيجابي لصالح المرأة بما يتيح  لها مزيدا من المشاركة السياسية والاجتماعية والثقافية، فهذه هي المبادئ التي تسمح لمجتمعنا بالسير حثيثا ليلتحق بركب الأمم المتقدّمة. 
د. محمد ولد محفوظ

                                  ـ يتواصل ـ 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق