كان أنور السادات رحمه الله رجلا غامضا.
وطني معاد للإنجليز وقريب من القصر! مغامر حذر... انضم إلى تنظيم الضباط الأحرار السري لكنه ليلة الثورة فضل الذهاب إلى السينما بدل تنفيذ الواجب الذي كلف به. وزيادة في الحيطة لنفسه في حال فشل الثورة، افتعل شجارا وأصر على تسجيل الواقعة في مخفر الشرطة. وحين نجحت الثورة التحق برفاقه فأسندوا إليه مهمة قراءة البيان الأول. في الأيام الأولى للثورة التي طبعها الصراع بين عبد الناصر ومحمد نجيب تذكيه جماعة الإخوان المسلمين، اصطف السادات إلى جانب عبد الناصر محافظا على حذره المعهود؛ فكان ينصرف بهدوء، حين يحتد النقاش بين الرفاق، ليدخن سيجارة في الخارج... وحين يستدعى للتصويت يقول: "صوتي عند عبد الناصر." ظل السادات محافظا على حذره بعد استتباب الأمور لعبد الناصر، فكان لصيقا به دون أن يتورط في الصراعات حوله... كان يتوارى في ظل عبد الناصر تاركا للآخرين الطموح. لم يكن يريد أن "يتورط" في "ثورة عبد الناصر"، وإنما أراد أن يبقى في صفوفها الخلفية انتظارا لفرصته... يروي مصطفى أمين أنه التقى عبد الناصر بعد حادث المنشية، فسأله عبد الناصر:
– من يمكنه أن يخلفني في قيادة الثورة بعد موتي؟
بعد لحظة صمت قلت له:
– إما بغدادي.. وإما عبد الحكيم عامر.. وهنا هز رأسه وقال:
– لا.. إن من سيخلفني هو أنور السادات..
قلت على الفور:
– مش معقول!!
قال:
– لا! أؤكد لك أنه أنور السادات؛ لأن السادات أكبر متآمر فينا.
ويضيف عبد الناصر، معبرا عن وعيه لمناورات رجل الظل..
– لقد حيرني هذا السادات.. لقد عينته وزير دولة لكنه لا يحضر اجتماعات مجلس الوزراء. عينته في المؤتمر الإسلامي ولكنه لا يذهب إلى مكتبه.. وصباح كل جمعة يصحب زوجته إلى بورسعيد للنزهة.. السادات هذا سينتظر إلى أن نموت جميعًا.. ثم يخلفنا هو."
يضيف مصطفى أمين: " عدت إلى «أخبار اليوم» في المساء، فقلت للسادات: أنا كنت عند عبد الناصر، وقال لي كذا وكذا، فلا بد أن تحضر اجتماعات مجلس الوزراء، وتشوف شغلك في المؤتمر الإسلامي، وتنشط. وفوجئت بالسادات يقول:
–لأ.. دي ثورة جمال عبد الناصر.. وهو يفعل ما يشاء، وأنا ما ليش دعوة."
كان العقيد معاوية ولد الطايع يصطحب زوجته رحمها الله مساء كل أحد إلى النادي اللبناني تاركا زملاءه الضباط يتآمرون على بعضهم البعض وهو قابع في الظل يرد اسمه في كل اللجان من الخلاص إلى الإنقاذ، حتى إن هيدالة، حين أبلغ بتآمره عليه سخر من الواشي وسفه أحلامه. وفي الجزائر لم يكن العقيد الشاذلي بن جديد سوى ضابط من بين عشرات خدموا في الجيش الفرنسي، ثم التحقوا بجبهة التحرير، وأصبح وزيرا للدفاع لأنه "بلا طموح". فالطموح في خلافة بومدين تقاسمه محمد صالح يحياوي وعبد العزيز بوتفليقة. لكن رجل الظل، الشاذلي بن جديد خلف الراحل فأجهز على الطامحين، وانقلب على المشروع الاجتماعي، والاقتصادي، والسياسي الذي شاده بومدين، كما انقلب السادات على المشروع الناصري، وزج برفاق ناصر في السجون.
وصل السادات والشاذلي إلى السلطة لأن الموت غيب الظل الذي قبعوا فيه طويلا، لكن آخرين خرجوا إلى الضوء لأن الذين صنعوهم قرروا الدفع بهم إلى الأضواء لتستمر المسيرة. لكنهم، حين بهرتهم الأضواء ناصبوا الذين أخرجوهم إلى الوجود العداء وتنكروا لتراثهم. ظل منصور هادي في الظل أكثر من عقد، وفي يوم تنصيبه رئيسا امتنع من الجلوس على الكرسي الذي كان يجلس عليه الرئيس علي عبد الله صالح رحمه الله، "تقديرا للرئيس"، لكنه ما لبث أن تنكر له، وأبعد كل رفاقه. وفي الكامرون تنحى أحمد وايدجو لصالح صنيعته بول بيا، فانقلب عليه، وعلى أنصاره، وهمش المسلمين.
وفي بلادنا، حين أراد الضباط العودة إلى الثكنات، وتسليم السلطة للمدنيين جاؤوا برجل خرج من الظل إلى النسيان فأجلسوه على كرسي الرئاسة وانسحبوا في هدوء. صدق الشيخ "وحي الإخوان" الذين رابطوا عن يمينه، واستهواه نفث الشيوعيين الذين عسكروا على شماله، وجعل مفسدي الحكم البائد شعاره. وألقى الجميع في روعه.."لن تستطيع التصرف في الأمانة إلا إذا تخلصت من الضباط الذين أتوا بك إلى السلطة في جوف صندوق اقتراع." واستشهدوا على صدق نصيحتهم بنص مكيافللي.."على الأمير أن يتخلص من الذين ساعدوه في الوصول إلى السلطة"... فهل يفعلها رجل الظل محمد محمود ولد سيدي مع الذين أتوا به إلى رئاسة تواصل؟ خاصة أننا على أبواب انتخابات ستشارك فيها كل المعارضات، ومن ضمنها التكتل الذي كان تواصل يستغل غيابه للاستفادة من أصوات ناخبيه. إنها فرصة سانحة لرجل الظل للتخلص من "مراكز القوى" و"عصابة الأربعة"، و"الحرس القديم" ليظهر في الصورة وحده "تحت الضوء"...
من صفحة الأستاذ إسحاق الكنتي على الفيس بوك
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق