يروى عن الخليفة الثالث قوله..”إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن”، وينسب هذا القول أحيانا إلى الخليفة الثاني. (يزع: يكف، يمنع…)
يتعلق الأمر هنا بنص منزل، فما بالك بنص وضعي! يترجم هذا القول العلاقة بين القائد والنص، وهي علاقة ذات طابع جدلي. فلعل أقدم نص وضعي ينظم الشأن العام هو ذلك المنسوب إلى حمورابي ولا بد أنه فصله على مقاسه ليلبسه المجتمع البابلي…
رغم شمولية النص وتفرد القائد فإن جدلهما، حين إدارة الشأن العام، يظهر أن للقائد ميزة الفعل الحر الذي يمكنه من “الخروج على النص”؛ بإسقاطه أو تعديله حسب مقاسات تتغير وتتنوع باختلاف القادة… فليس التزام النص كافيا لبناء الدول وتحقيق رفاه الشعوب. فقد سكت التاريخ عن أولئك “القادة” الذين اكتفوا بتهجي النصوص وإدارة الشأن العام وفق روتين بارد منضبط… فلم يذكر لنا من خلفاء بني العباس، على كثرتهم، سوى أفراد قلائل مثلت سيرهم “الأحكام السلطانية” التي التزمها غيرهم فصارت نصوصا تقيدهم… لم يكن المنصور والرشيد والمأمون مجرد خلفاء يرددون غداة تتويجهم، وفقا للنصوص، “لو دامت لغيري ما وصلت إلي”… بل كانوا قادة تركوا بصماتهم الخاصة على الخلافة الإسلامية..
وفي التاريخ المعاصر كانت الجمهورية الفرنسية الرابعة تتخبط في نصوصها المستمسكة بأرقى أشكال الديمقراطية، والعاجزة، في نفس الوقت، عن إدارة الشأن العام للفرنسيين بما يضمن لهم الاستقرار والرفاه. وقعت الجمهورية في أزمة فلم تبحث الطبقة السياسية عن نصوص تحل بها الأزمة، وإنما استدعت ضابطا وطنيا وتركت له مهمة تفصيل النصوص على مقاسه الفارع…
ومن قبل حين قامت الحرب العالمية الثانية كانت الديمقراطية البريطانية العريقة تدبر الشأن العام بلا نصوص، بين أغلبية تحكم، وأقلية تعارض. لكن ظروف الحرب استدعت إقامة حكومة إجماع وطني وافقت جميع الأحزاب على المشاركة فيها شريطة أن لا يرأسها تشامبرلين، الوزير الأول المنتخب ديمقراطيا! فتم الاتفاق على استدعاء ضابط آخر؛ تشيرشل، ليدير الحرب في حال صحوه وسكره… في كلتا الحالتين سلمت أمتان عريقتان شأنهما العام، في حالة السلم وحالة الحرب، لضابطين وطنيين لاعتبار وحيد اسمه المصلحة العامة. في الحالة الأولى ضرب بالنصوص عرض الحائط، وفي الحالة الثانية، خرق تقليد روعي منذ قرون…
حتى في الحالات التي يستمسك فيها بالنصوص، وتراعى فيها التقاليد، تظل للقادة بصماتهم التي لا يستمدونها من حرصهم على التقيد بالنصوص.. فلم يكن بين فرنسا شيراك، وسلطة ساركوزي من نسب سوى الانتماء لنفس النصوص، ولم يكن ميتران “رئيسا عاديا” مثل هولاند، رغم ارتباطهما بالنسب الاشتراكي.. وقل الشيء نفسه في ثاتشر وخلفها جون ميجر، وفي هلموت كول وشرودر… في كل هذه الحالات انتسب الجميع إلى نفس النصوص فكان منهم القادة، ومنهم “حراس النص” الذين يقلب التاريخ صفحاتهم دون أن يدونوا فيها أي هرطقة…
وفي أيامنا هذه يدخل القادة الوطنيون في جدل مع النصوص ينتهي بتغليب المصلحة العليا للوطن ضدا على النصوص التي تقف حجر عثرة في سبيل تحقيقها… فقد انسحب ترامب (لا يمكن لأحد إنكار وطنيته، رغم الاختلاف معه) من كل الاتفاقيات الدولية التي رأى أنها لا تحقق مصلحة بلاده، متحررا من كل النصوص التي تقننها. وفي الصين، وروسيا، وروندا… لم يقبل القادة الوطنيون أن تكون النصوص عائقا في وجه استمرار مشاريع وطنية أطلقها قادة، ومن واجبهم حمايتها والوصول بها إلى غاياتها… وبذلك فإن إلغاء النصوص وتهذيبها وتشذيبها لتلائم المصلحة العليا قاعدة مطردة لا تشذ عنها سوى أمة تتخبط في النصوص تخبط الجمهورية الفرنسية الرابعة، وعليها أن تترك الأمر للضابط الوطني يفصل النصوص على مقاسه.. حتى نهاية المعركة…
إسحاق الكنتي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق