هدوء الصباح يبث سكينته في المكان، رغم دبيب الزحمة المتزايد، وإقبال الناس المتواصل، كأنهم يأتون ولا يذهبون، أو كأن ملتقى الطرق الكبير -بمعايير نواكشوط- يبتلعهم.
قراءة بسيطة في سحنات المارة وحركاتهم، تعطيك انطباعا أنك أمام تنوع بشري ثري ، قوي الإختلاف، جميل الإنسجام، لذيذ التناغم. بيض وسود وألوان كثيرة متفاوتة بينها ، تجاعيد تحكي ألم السنين ومرارة الظلم والفقر والغبن، ابتسامات تنم عن براءة صافية، وتسامح غير متكلف وجمال روحي مرسوم على بشاشة الوجوه ونظرات العيون، منهم من نزل لتوه من سيارة أجرة انتهت رحلتها السيزيفية ، من أقصى نقطة في إحدى مقاطعات نواكشوط الطرفية، لتعود أدراجها، وعليه التوجه إلى جانب آخر من ملتقى الطرق ليستغل سيارة أجرة جديدة ، في اتجاهه الجديد، ومنهم من يكفيه السير على الأقدام ليصل مبتغاه، كعمال السوق الكبير المجاور، من صغار الباعة وصناع الشاي واللحم المشوي.
قهقهات سائقي التاكسي وهم يحتسون الشاي في انتظار أن يجهز السمسار الرحلة، بحشر ستة ركاب في سيارة من الحجم الصغير ،راكبين في المقعد الأمامي وحده، وأربعة ركاب في المقاعد الخلفية، يفعل السمسار كل ذلك مقابل أجرة أحد الركاب ، مائة أو مئتي أوقية ، حسب اتجاه الرحلة وطول المسافة.
قهقهاتهم إذا ، ومداعباتهم التي لا تخلو من جلافة ، ترتفع فيها الأصوات وقد تتطور إلى العراك بالأيدي، هي روح المكان ونبضه، ينضاف إليها جري السماسرة المستمر، ذهابا وأيابا، بين السيارات وبسطات الفواكه وترحيبهم بكل قادم ومبادرته بالسؤال، إلى أين أنت ذاهب ؟ مردفين أحد الخيارات (ابريميير الفوك، أس.أن. دي.أه، أديار تاتا...الخ) والتوجه به إلى السيارة مع محاولة فاشلة لإظهار بعض اللطف. تنافسهم المحموم على الركاب الذي قد يصل إلى تبادل السباب والشتائم، كلها أمور تزيد من صخب المكان دون أن يفقد روح الصباح وبقايا سكونه المتضائلة.
الساعة تشير إلى الثامنة وعشر دقائق تقريبا، متسول من ذوي الإحتياجات الخاصة مكدود الملامح، يبسط فراشه المكون من خنشتين ربطهما بخياطة يدوية، ترك تعاقب الأيام والليالي وخشونة الرصيف فيهما آثارا بالغة من عض السنين ولفح الرياح وضربات الشمس. الأيام وصعوبة الحياة تركت في المتسول نفسه أثارا غير بعيدة من الآثار السالفة الذكر.
بائعة الصاندويش المرحة، الممتلئة، بارزة الأثداء، توزع البسمة والأكل على زبنائها بحماس ولباقة وألفة بادية بينها وإياهم ، وكأنهم ضيوف عندها في بيتها، تمارس عملها بإتقان وتفان وإيمان كأنه واجب ديني مقدس ، حركاتها دقيقة محسوبة، تبدأ من أخذ السكين وقطع الخبز وشقه ثم أخذ شيء من الخلطة المعدة، في الحين ، فوق النار ، وضعه في قطعة الخبز إضافة بعض البهارات البسيطة، لف الصاندويش في جزء من جريدة ، أجنبية غالبا، مده إلى الزبون مع ابتسامة صادقة أصيلة ، لا تشبه ابتسامات خادمات الفنادق والمطاعم الراقية، تلك الأنيقة المصطنعة الفارغة من أي معنى، تأخذ ثمن الصاندويش تلقيه في كيس أعدته لذلك، تعيد الكرة مرة أخرى ، بدون فتور أو توان، فتبارك الله رب العالمين.
متسول آخر يمارس استجداءه متجولا بين المارة ، لا تبدو حاجته إلى التسول واردة، رجل أربعيني ليست به إعاقة، يتكلم بلسان فصيح، مرة يدعي أنه لا يملك أجرة التاكسي، ومرة يدعي عجزه عن شراء دواء يلزمه استعماله يوميا، ومرة يطلب المساعدة مباشرة دون تبرير أو تعليل، ملامحه تثير الإنزعاج أكثر من التعاطف.
هنا تتعانق التناقضات وتختلط اللغات وتتشابك الأصوات وتختلف الأهداف والغايات، ولكل وجهة هو موليها.
أسعد الله صباحاتكم بكل خير.
أبوبكر المامي
قراءة بسيطة في سحنات المارة وحركاتهم، تعطيك انطباعا أنك أمام تنوع بشري ثري ، قوي الإختلاف، جميل الإنسجام، لذيذ التناغم. بيض وسود وألوان كثيرة متفاوتة بينها ، تجاعيد تحكي ألم السنين ومرارة الظلم والفقر والغبن، ابتسامات تنم عن براءة صافية، وتسامح غير متكلف وجمال روحي مرسوم على بشاشة الوجوه ونظرات العيون، منهم من نزل لتوه من سيارة أجرة انتهت رحلتها السيزيفية ، من أقصى نقطة في إحدى مقاطعات نواكشوط الطرفية، لتعود أدراجها، وعليه التوجه إلى جانب آخر من ملتقى الطرق ليستغل سيارة أجرة جديدة ، في اتجاهه الجديد، ومنهم من يكفيه السير على الأقدام ليصل مبتغاه، كعمال السوق الكبير المجاور، من صغار الباعة وصناع الشاي واللحم المشوي.
قهقهات سائقي التاكسي وهم يحتسون الشاي في انتظار أن يجهز السمسار الرحلة، بحشر ستة ركاب في سيارة من الحجم الصغير ،راكبين في المقعد الأمامي وحده، وأربعة ركاب في المقاعد الخلفية، يفعل السمسار كل ذلك مقابل أجرة أحد الركاب ، مائة أو مئتي أوقية ، حسب اتجاه الرحلة وطول المسافة.
قهقهاتهم إذا ، ومداعباتهم التي لا تخلو من جلافة ، ترتفع فيها الأصوات وقد تتطور إلى العراك بالأيدي، هي روح المكان ونبضه، ينضاف إليها جري السماسرة المستمر، ذهابا وأيابا، بين السيارات وبسطات الفواكه وترحيبهم بكل قادم ومبادرته بالسؤال، إلى أين أنت ذاهب ؟ مردفين أحد الخيارات (ابريميير الفوك، أس.أن. دي.أه، أديار تاتا...الخ) والتوجه به إلى السيارة مع محاولة فاشلة لإظهار بعض اللطف. تنافسهم المحموم على الركاب الذي قد يصل إلى تبادل السباب والشتائم، كلها أمور تزيد من صخب المكان دون أن يفقد روح الصباح وبقايا سكونه المتضائلة.
الساعة تشير إلى الثامنة وعشر دقائق تقريبا، متسول من ذوي الإحتياجات الخاصة مكدود الملامح، يبسط فراشه المكون من خنشتين ربطهما بخياطة يدوية، ترك تعاقب الأيام والليالي وخشونة الرصيف فيهما آثارا بالغة من عض السنين ولفح الرياح وضربات الشمس. الأيام وصعوبة الحياة تركت في المتسول نفسه أثارا غير بعيدة من الآثار السالفة الذكر.
بائعة الصاندويش المرحة، الممتلئة، بارزة الأثداء، توزع البسمة والأكل على زبنائها بحماس ولباقة وألفة بادية بينها وإياهم ، وكأنهم ضيوف عندها في بيتها، تمارس عملها بإتقان وتفان وإيمان كأنه واجب ديني مقدس ، حركاتها دقيقة محسوبة، تبدأ من أخذ السكين وقطع الخبز وشقه ثم أخذ شيء من الخلطة المعدة، في الحين ، فوق النار ، وضعه في قطعة الخبز إضافة بعض البهارات البسيطة، لف الصاندويش في جزء من جريدة ، أجنبية غالبا، مده إلى الزبون مع ابتسامة صادقة أصيلة ، لا تشبه ابتسامات خادمات الفنادق والمطاعم الراقية، تلك الأنيقة المصطنعة الفارغة من أي معنى، تأخذ ثمن الصاندويش تلقيه في كيس أعدته لذلك، تعيد الكرة مرة أخرى ، بدون فتور أو توان، فتبارك الله رب العالمين.
متسول آخر يمارس استجداءه متجولا بين المارة ، لا تبدو حاجته إلى التسول واردة، رجل أربعيني ليست به إعاقة، يتكلم بلسان فصيح، مرة يدعي أنه لا يملك أجرة التاكسي، ومرة يدعي عجزه عن شراء دواء يلزمه استعماله يوميا، ومرة يطلب المساعدة مباشرة دون تبرير أو تعليل، ملامحه تثير الإنزعاج أكثر من التعاطف.
هنا تتعانق التناقضات وتختلط اللغات وتتشابك الأصوات وتختلف الأهداف والغايات، ولكل وجهة هو موليها.
أسعد الله صباحاتكم بكل خير.
أبوبكر المامي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق